الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 133 ] قولهم ثم وجدنا في هذا الكتاب من تعظيم السيد المسيح وأمه حيث يقول في سورة الأنبياء والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين وقال في سورة آل عمران وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين مع الشهادات للسيد المسيح بالمعجزات وأنه حبلت به أمه من غير مباضعة رجل لبشارة ملائكة الله لأمه وأنه تكلم في المهد وأحيا الميت وأبرأ الأكمه ونقى الأبرص وأنه خلق من الطين كهيئة الطير فنفخ فيه فكان طائرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت ووجدنا أيضا في الكتاب أن الله رفعه إليه .

وقال : في سورة النساء [ ص: 134 ] وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وفي سورة آل عمران إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وقال : في سورة البقرة وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس وقال : في سورة الحديد وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وقال في سورة آل عمران من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ثم وجدناه يعظم إنجيلنا .

الجواب : أما تعظيم المسيح وأمه فهو حق وكذلك مدح من كان [ ص: 135 ] على دينه الذي لم يبدل قبل أن يبعث أو بقي على ذلك إلى أن بعث محمد فآمن به ، فإن هؤلاء مؤمنون مسلمون مهتدون وكذلك من كان على دين موسى الذي لم يبدل إلى أن بعث المسيح فآمن به فهؤلاء مؤمنون مسلمون مهتدون وقد قدمنا أن المسلمين هم عدل متوسطون لا ينحرفون إلى غلو ولا إلى تقصير .

وأما اليهود والنصارى فهم على طرفي نقيض هؤلاء ينحرفون إلى جهة وهؤلاء إلى الجهة التي تقابلها كما ذكرنا تقابلهم في النسخ وكذلك تقابلهم في التحريم والتحليل والطهارة والنجاسة ، فإن اليهود حرمت عليهم الطيبات وهم يبالغون في اجتناب النجاسات [ ص: 136 ] حتى أن الحائض لا يؤاكلونها ولا يساكنونها ولا يجامعونها وكانوا لا يرون إزالة النجاسة من الثوب بل يقرض موضعها ويستخرجون الدم من العروق إلى غير ذلك من الآصار والأغلال التي كانت عليهم .

وأما النصارى ففي مقابلتهم تجد عامتهم لا يرون شيئا حراما ولا نجسا إلا ما كرهه الإنسان بطبعه ويصلون مع الجنابة والحدث وحمل النجاسات ويأكلون الخبائث كالدم والميتة ولحم الخنزير إلا من كره منهم شيئا فتركه والمسلمون وسط كما قال - تعالى - فيهم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا أي عدلا خيارا قال - تعالى - : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ( 156 ) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [ ص: 137 ] ولهذا كان من انحرف من المسلمين إلى شبه اليهود والنصارى مأمورا بترك ذلك الانحراف واتباع الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا غير المغضوب عليهم كاليهود وغير الضالين كالنصارى .

وذلك مثل من يبالغ في اجتناب النجاسات فينجس ما لم ينجسه الله ورسوله ويحرم ما لم يحرمه الله ورسوله ويأخذه الوسواس في اجتناب النجاسات ويحرم طيبات أحلها الله للمسلمين مثل من يرى أن القياس أن النجاسة لا تزول لا بماء ولا بغيره أو يرى أنها وإن زالت فلم يبق لها أثر فالمحل نجس إذا لم تزل بما يشترطه هو من الماء أو غيره أو يرى أن الطيبات التي [ ص: 138 ] أحلها الله حرام خبيثة لأنها مستحيلة عن المحرم مع أن الخل حلال وإن كان قد كان خمرا باتفاق المسلمين إذا بدا إلى حالته أو يرى أن الماء الطيب والمائعات الطيبة التي ليس فيها أثر من الخبيث حرام لكون الخبيث لاقاها أو استهلك فيها مع أنها من الطيبات لا من الخبائث أو يرى تحريم ما سوى موضع الدم الذي هو أذى إلى غير ذلك من أقوال قالها بعض العلماء ، ولكن غيرهم نازعهم في ذلك واتبع ما دل عليه الكتاب والسنة .

وأعظم من ذلك من يكفر من خالفه من المسلمين ويرى نجاسة الكفار كما عليه كثير من أهل البدع من الرافضة والخوارج وغيرهم فإذا أكل غيرهم من وعائهم نجسه عندهم وأما ما يفعله كثير من الناس من غير أن يقوله عالم مثل من يغسل يديه وثيابه وحصر بيته بتوهم نجاستها أو يأمر الحائض إذا طهرت أن تبدل ثيابها الأول أو تغسلها أو يمنع الجنب أن يأكل أو يشرب حتى يغتسل فهذا كثير فيمن يشبه اليهود بل يشبه سامرة اليهود .

وأما من يشبه النصارى فمثل من يحسن الظن بمن لا يتطهر ولا [ ص: 139 ] يصلي من المنسوبين إلى الفقر والزهد والعبادة مثل من يكون في مواضع الشياطين والنجاسات كالحمام والأتاتين والمزابل وهو متلوث بالبول والعذرة ويعاشر الكلاب ولا يتوضأ ولا يغتسل من الجنابة بل ولا يصلي أو يصلي بلا وضوء وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الصلوات الخمس فرض على كل أحد وأن الوضوء من الحدث والاغتسال من الجنابة فرض لا يصلي إلا به مع القدرة ولا يتيمم مع القدرة فمن أنكر وجوب ذلك فهو كافر باتفاق المسلمين .

[ ص: 140 ] ومن جعل الزاهد العابد الذي له نوع من الخوارق مثل نوع من الكشف والتصرف الذي يكون من الشياطين والجهال يظنون أنه من كرامات أولياء الله إذا لم يكن يصلي الصلوات الخمس ويتوضأ ويغتسل من الجنابة من المؤمنين أو من أولياء الله فهو كافر باتفاق المسلمين ومن لم يحرم الخبائث التي حرمها الله ورسوله كالبول والعذرة والدم والميتة ولحم الخنزير والخمر فهو كافر باتفاق المسلمين ومن جعل مستحل ذلك مع العلم بمخالفته لدين الرسول وليا لله فهو كافر باتفاق المسلمين وكذلك فيمن ينتحل الإسلام ويذم أهل الكتاب من يكون منافقا في الدرك الأسفل من النار ويكون كثير من اليهود والنصارى أخف عذابا في الآخرة منه قال الله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ( 145 ) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما وكذلك المسلمون وأهل السنة في المسلمين وكذلك في التوحيد ، فإن اليهود شبهوا الخالق بالمخلوق فيما يختص بالمخلوق وهو صفات النقص الذي يجب تنزيه الرب عنها والنصارى شبهوا المخلوق بالخالق فيما يختص بالخالق وهو صفات الكمال التي لا يستحقها إلا الله تبارك وتعالى فقال من قال من اليهود [ ص: 141 ] إن الله فقير ونحن أغنياء وقالوا يد الله مغلولة وهو بخيل وقالوا أنه خلق العالم فتعب فاستراح .

وحكي عن بعضهم أنه قال : بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وأنه ناح على بعض من أهلكه من عباده كما ينوح المصاب على ميته وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه ويتقدس - سبحانه وتعالى .

وأيضا فهم يستكبرون عن عبادة الله وطاعة رسله ويعصون أمره ويتعدون حدوده ولا يجوزون له أن ينسخ ما شرعه بل يحجرون عليه .

والنصارى يصفون المخلوق بما يتصف به الخالق فيجعلونه رب [ ص: 142 ] العالمين خالق كل شيء ومليكه الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون واتخذوا الملائكة والنبيين أربابا وصوروا تماثيل المخلوقات واتخذوهم شفعاء يشفعون لهم عند الله كما فعل عباد الأوثان كما قال : الله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ولهذا قال - تعالى - : وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون وقال - تعالى - : الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع والمسلمون وسط يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل يصفونه بصفات الكمال وينزهونه عن النقائص التي تمتنع على الخالق ولا يتصف بها [ ص: 143 ] إلا المخلوق فيصفونه بالحياة والعلم والقدرة والرحمة والعدل والإحسان وينزهونه عن الموت والنوم والجهل والعجز والظلم والفناء ويعلمون مع ذلك أنه لا مثيل له في شيء من صفات الكمال فلا أحد يعلم كعلمه ولا يقدر كقدرته ولا يرحم كرحمته ولا يسمع كسمعه ولا يبصر كبصره ولا يخلق كخلقه ولا يستوي كاستوائه ولا يأتي كإتيانه ولا ينزل كنزوله كما قال - تعالى - : قل هو الله أحد ( 1 ) الله الصمد ( 2 ) لم يلد ولم يولد ( 3 ) ولم يكن له كفوا أحد ولا يصفون أحدا من المخلوقين بخصائص الخالق جل جلاله بل كل ما سواه من الملائكة والأنبياء وسائر الخلق فقير إليه عبد له وهو الصمد الذي يحتاج إليه كل شيء ويسأله كل أحد وهو غني بنفسه لا يحتاج إلى أحد في شيء من الأشياء كما قال - تعالى - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ( 88 ) لقد جئتم شيئا إدا ( 89 ) تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ( 90 ) أن دعوا للرحمن ولدا ( 91 ) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ( 92 ) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ( 93 ) لقد أحصاهم وعدهم عدا ( 94 ) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ ص: 144 ] وقال - تعالى - : ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( 171 ) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ( 172 ) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا وكذلك هم في المسيح فالنصارى يقولون هو الله ويقولون أيضا هو ابن الله وهو إله تام وإنسان تام واليهود يقولون هو ولد زنا وهو ابن يوسف النجار ويقولون عن مريم إنها بغي بعيسى كما قال - تعالى - : وقولهم على مريم بهتانا عظيما ويقولون هو ساحر كذاب .

وأما المسلمون فيقولون هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه وهو وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويصفونه بما وصفه الله به في كتابه لا يغلون فيه غلو النصارى ولا يقصرون في حقه تقصير اليهود وكذلك قولهم في سائر الأنبياء والمرسلين وفي أولياء الله فاليهود قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من [ ص: 145 ] دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ومع هذا فقد شارك النصارى اليهود في نقص حق كثير من الأنبياء فيقولون أن سليمان لم يكن نبيا ويقولون إن الحواريين مثل موسى وإبراهيم ويقولون إن من عمل بوصايا الله من غير الأنبياء صار مثل الأنبياء وكان له أن يشرع شريعة وبعض اليهود غلوا في العزير حتى قالوا إنه ابن الله .

ولهذا قال نبينا في الحديث الصحيح لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله .

[ ص: 146 ] والله تعالى ذكر في القرآن في سورة ( كهيعص ) قصة ابني الخالة يحيى وعيسى ويحيى يسمونه النصارى يوحنا وهو يوحنا المعمداني عندهم فقال - تعالى - بعد أن ذكر قصة يحيى واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ( 16 ) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( 17 ) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ( 18 ) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ( 19 ) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ( 20 ) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ( 21 ) فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ( 22 ) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ( 23 ) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ( 24 ) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ( 25 ) فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ( 26 ) فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا ( 27 ) ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ( 28 ) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ( 29 ) قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ( 30 ) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ( 31 ) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ( 32 ) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .

[ ص: 147 ] ثم قال : الله تعالى ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ( 34 ) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 35 ) وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( 36 ) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ( 37 ) أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين فذكر سبحانه قصة مريم والمسيح في هذه السورة المكية التي أنزلها في أول الأمر بمكة في السور التي ذكر فيها أصول الدين المدنية التي يخاطب فيها من اتبع الأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين لما قدم عليه نصارى نجران فكان فيها الخطاب لأهل الكتاب فقال - تعالى - : إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ( 33 ) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ( 34 ) إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ( 35 ) فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما من مولود إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من [ ص: 148 ] الشيطان إلا مريم وابنها ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم قال - تعالى - : فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ثم ذكر قصة زكريا ويحيى ثم قال [ ص: 149 ] هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ( 38 ) فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ( 39 ) قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء ( 40 ) قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ( 41 ) وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ( 43 ) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ( 44 ) إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ( 45 ) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ( 46 ) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 47 ) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ( 48 ) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ( 49 ) ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ( 50 ) إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( 51 ) فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ( 52 ) ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( 54 ) إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ( 55 ) فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ( 56 ) وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ( 57 ) ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ( 58 ) إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( 59 ) الحق من ربك فلا تكن من الممترين ( 60 ) فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ( 61 ) إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ( 62 ) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ( 63 ) قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ياأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ( 65 ) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( 66 ) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ( 67 ) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .

[ ص: 150 ] فهو سبحانه قد ذكر قصة مريم والمسيح في هاتين السورتين إحداهما مكية نزلت في أول الأمر مع السور الممهدة لأصول الدين وهي سورة ( كهيعص ) والثانية : مدنية نزلت بعد أن أمر بالهجرة والجهاد ولهذا تضمنت مناظرة أهل الكتاب ومباهلتهم كما نزلت في براءة مجاهدتهم فأخبر في السورة المكية أنها لما انفردت للعبادة أرسل الله إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا فقالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا .

قال أبو وائل علمت أن المتقي ذو نهية أي تقواه ينهاه عن الفاحشة وأنها خافت منه أن يكون قصده الفاحشة فقالت أعوذ [ ص: 151 ] بالرحمن منك إن كنت تقيا أي تتقي الله وما يقول بعض الجهال من أنه كان فيهم رجل فاجر اسمه تقي فهو من نوع الهذيان وهو من الكذب الظاهر الذي لا يقوله إلا جاهل ثم قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا وفي القراءة الأخرى لأهب لك غلاما زكيا فأخبر هذا الروح الذي تمثل لها بشرا سويا أنه رسول ربها فدل الكلام على أن هذا الروح عين قائمة بنفسها ليست صفة لغيرها [ ص: 152 ] وأنه رسول من الله ليس صفة من صفات الله ولهذا قال جماهير العلماء أنه جبريل - عليه السلام - فإن الله سماه الروح الأمين وسماه روح القدس وسماه جبريل وهكذا عند أهل الكتاب أنه تجسد من مريم ومن روح القدس لكن ضلالهم حيث يظنون أن روح القدس حياة الله وأنه إله يخلق ويرزق ويعبد وليس في شيء من الكتب الإلهية ولا في كلام الأنبياء أن الله سمى صفته القائمة به روح القدس ولا سمى كلامه ولا شيئا من صفاته ابنا وهذا أحد ما يثبت به ضلال النصارى وأنهم حرفوا كلام الأنبياء وتأولوه على غير ما أرادت الأنبياء ، فإن أصل تثليثهم مبني على ما في أحد الأناجيل من أن المسيح - عليه السلام - قال لهم : عمدوا الناس باسم الآب والابن وروح القدس فيقال لهم : هذا إذا كان قد قاله المسيح وليس في لغة المسيح ولا لغة أحد من الأنبياء أنهم يسمون صفة الله القائمة به ولا كلمته ولا حياته لا ابنا ولا روح قدس ولا يسمون كلمته ابنا ولا يسمونه نفسه ابنا ولا روح قدس ، ولكن يوجد فيما ينقلونه عنهم أنهم يصفون المصطفى المكرم ابنا وهذا موجود في حق المسيح وغيره كما يذكرون أنه قال - تعالى - : لإسرائيل أنت ابني بكري [ ص: 153 ] أي بني إسرائيل .

وروح القدس يراد به الروح التي تنزل على الأنبياء كما نزلت على داود وغيره ، فإن في كتبهم أن روح القدس كانت في داود وغيره وأن المسيح قال : لهم أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فسماه أبا للجميع لم يكن المسيح مخصوصا عندهم باسم الابن ولا يوجد عندهم لفظ الابن إلا اسما للمصطفى المكرم لا اسما لشيء من صفات الله ولا في كتب الأنبياء أن صفة الله تولدت منه .

وإذا كان كذلك كان في هذا ما يبين أنه ليس المراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية التي يقولون أنها تولدت من الله عندهم مع كونها أزلية ولا بروح القدس حياة الله بل المراد بالابن ناسوت المسيح وبروح القدس ما أنزل عليه من الوحي والملك الذي نزل به ، فيكون قد أمرهم بالإيمان بالله وبرسوله وبما أنزله على رسوله والملك الذي نزل به وبهذا أمرت الأنبياء كلهم وليس للمسيح خاصة استحق بها أن يكون فيه شيء من اللاهوت لكن ظهر فيه نور الله وكلام الله وروح الله كما ظهر في غيره من الأنبياء والرسل ، فإن غيره أيضا فيما [ ص: 154 ] ينقلونه عن الأنبياء يسمى ابنا وروح القدس حلت فيه وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .

والمقصود هنا التنبيه على أن كلام الأنبياء - عليهم السلام - يصدق بعضه بعضا وأنه ليس مع النصارى لا حجة سمعية ولا عقلية توافق ما ابتدعوه ، ولكن فسروا كلام الأنبياء بما لا يدل عليه وعندهم في الإنجيل أنه قال : إن الساعة لا يعلمها الملائكة ولا الابن وإنما يعلمها الآب وحده فبين أن الابن لا يعلم الساعة فعلم أن الابن ليس هو القديم الأزلي وإنما هو المحدث الزماني .

التالي السابق


الخدمات العلمية