الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 256 ] وقد تبين بما ذكرناه فساد قولهم : في تفسير آية البقرة ، فإنهم قالوا : وقال : في سورة البقرة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه قالوا : فأعني بقوله : أنبياءه المبشرين ورسله ينحو بذلك عن الحواريين الذين داروا في سبعة أقاليم العالم وبشروا بالكتاب الذي هو الإنجيل الطاهر ; لأنه لو كان أعني عن إبراهيم وموسى وداود ومحمد لكان قال : ومعهم الكتب ; لأن كل واحد منهم جاء بكتاب دون غيره ولم يقل إلا الكتاب الواحد ; لأنه ما أتي جماعة مبشرين بكتاب واحد غير الحواريين الذين أتوا بالإنجيل الطاهر .

فيقال : لهم : قد تقدم بعض ما يدل على فساد هذا التفسير .

وأيضا ، فإنه قال - تعالى - : كان الناس أمة واحدة أي فاختلفوا . فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .

والحواريون ليسوا من النبيين وإن كان المسيح أرسلهم ولا يلزم من إرساله لهم أن يكونوا أنبياء كمن أرسلهم موسى ومحمد وغيرهما ولهذا تسميهم عامة النصارى رسلا ولا يسمونهم أنبياء .

[ ص: 257 ] وأيضا فإنه قال : وأنزل معهم الكتاب .

والحواريون لم ينزل معهم الكتاب إنما أنزل الكتاب مع المسيح ، ولكن الأنبياء أنزل معهم جنس الكتاب ، فإن الكتاب اسم جنس فيدخل فيه الكتب المنزلة كلها ; كما في قوله : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وفي قوله : كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وفي القراءة الأخرى ( وكتابه ورسله ) وكذلك قوله عن مريم : وصدقت بكلمات ربها وكتبه وفي القراءة الأخرى ( وكتابه ) وأيضا قال - تعالى - : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .

[ ص: 258 ] وقال - تعالى - : في سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا وهذا يدل أنه لما اختلفت بنو آدم بعث الله النبيين ، واختلافهم كان قبل المسيح بل قبل موسى بل قبل الخليل بل قبل نوح ; كما قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ، ثم حدث فيهم الشرك والاختلاف على وجهين تارة يختلفون فيؤمن بعضهم ويكفر بعضهم ; كما قال - تعالى - : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر وقال - تعالى - : هذان خصمان اختصموا في ربهم يعني أهل الإيمان والكفر وقد يكون المختلفون كلهم على باطل كقوله : [ ص: 259 ] وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد وقوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك وأيضا : فالإنجيل ليس فيه حكم بين الناس فيما اختلفوا فيه بل عامته مواعظ ووصايا وأخبار المسيح بخلاف التوراة والقرآن ، فإن فيهما من الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ما ليس في الإنجيل .

وأيضا فإنه قال : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه .

وذلك يقتضي أن الله هدى الذين آمنوا بعد اختلاف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم لما اختلفوا فيه من الحق وهذا ذم لمن أوتوا الكتاب فاختلفوا .

والنصارى داخلون في هذا الذم ولو كان المراد الإنجيل لكانوا هم المذمومين دون غيرهم وليس كذلك بل اليهود وغيرهم من المختلفين مذمومون أيضا ، وإنما الممدوح هم المؤمنون الذين هداهم الله لما اختلف أولئك فيه من الحق بإذنه .

[ ص: 260 ] وهذا يتناول أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قطعا وقد يتناول كل من آمن من الأمم المتقدمة كالذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم الخليل ; كما قال - تعالى - : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأما أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الله هداهم لما اختلف فيه الأمم قبلهم من الحق بإذنه وهذا بين ، فإنهم على الحق والعدل الوسط بين طرفي الباطل وهذا ظاهر في اتباعهم الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى في التوحيد والأنبياء والأخبار والتشريع والنسخ والحلال والحرام والتصديق والتكذيب وغير ذلك .

أما التوحيد فإن اليهود شبهوا الخالق بالمخلوق فوصفوا الرب سبحانه بصفات النقص الذي يختص بها المخلوق فقالوا إن الله فقير وبخيل وأنه يتعب وغير ذلك .

والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق صفات الكمال الذي يختص بها الخالق فقالوا : عن المسيح أنه خالق السماوات والأرض القديم الأزلي علام الغيوب القادر على كل شيء و : [ ص: 261 ] اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية .

والمسلمون هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق فلم يشبهوا الخالق بالمخلوق ولا المخلوق بالخالق بل أثبتوا لله ما يستحقه من صفات الكمال ونزهوه عن النقائص وأقروا بأنه أحد ليس كمثله شيء وليس له كفوا أحد في شيء من صفات الكمال فنزهوه عن النقائص خلافا لليهود وعن مماثلة المخلوق له خلافا للنصارى .

وأما الأنبياء - عليهم السلام - فإن اليهود قتلوا بعضا وكذبوا بعضا ; كما قال - تعالى - : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون .

والنصارى أشركوا بهم وبمن هو دونهم فعبدوا المسيح بل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وجعلوا الحواريين رسلا لله وزعموا أن الإنسان يصير بطاعته بمنزلة الأنبياء وصوروا تماثيل الأنبياء والصالحين وصاروا يدعونهم ويستشفعون بهم بعد موتهم وإذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تماثيلهم .

وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر له كنيسة [ ص: 262 ] بأرض الحبشة وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال : أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة .

وأما المسلمون فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه فآمنوا بأنبياء الله كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم ولم يغلوا فيهم غلو النصارى ولا قصروا في حقهم تقصير اليهود وكذلك قتل اليهود الذين يأمرون بالقسط من الناس والنصارى يطيعون من يأمر بالشرك وإن الشرك لظلم عظيم ويطيعون من يحرم الحلال ويحلل الحرام والمسلمون يطيعون من يأمر بطاعة الله ولا يطيعون من يأمر بمعصية الله . والنصارى فيهم الشرك بالله واليهود فيهم الاستكبار عن عبادة الله ; كما قال - تعالى - : في النصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون وقال : في اليهود أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون والإسلام هو أن يستسلم العبد لله وحده فيعبده وحده بما أمره به فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ، والله لا يغفر أن يشرك به . ومن [ ص: 263 ] لم يستسلم له بل استكبر عن عبادته كان ممن قيل فيه ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين فلهذا كان جميع الأنبياء وأممهم مسلمين لله يعبدونه وحده بما أمرهم به وإن تنوعت شرائعهم فالمسيح لم يزل مسلما لما كان متبعا لشرع التوراة ولما نسخ الله له نسخة منها .

ومحمد لم يزل مسلما لما كان يصلي إلى بيت المقدس ، ثم لما صلى إلى الكعبة ولما بعثه الله إلى الخلق كانوا كلهم مأمورين بطاعته وكانت عبادة الله طاعته ، فمن لم يطعه لم يكن عابدا لله فلم يكن مسلما .

وأما التشريع فإن اليهود زعموا أن ما أمر الله به يمتنع منه أن ينسخه .

والنصارى زعموا أن ما أمر الله به يسوغ لأكابرهم أن ينسخوه فهدى الله المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق فقالوا إن الله سبحانه له أن ينسخ ما شرعه خلافا لليهود وليس للمخلوق أن يغير شيئا من شرع الخالق خلافا للنصارى .

وأما الحلال والحرام والطهارة والنجاسة فإن اليهود حرمت عليهم الطيبات وشددت عليهم من أمر النجاسات ، حتى منعوا من [ ص: 264 ] مؤاكلة الحائض والجلوس معها في بيت ومن إزالة النجاسة وحرم عليهم شحم الثرب والكليتين وكل ذي ظفر وغير ذلك .

والمسيح - عليه السلام - أحل لهم بعض الذي حرم عليهم فقابلهم النصارى فقالوا : ليس شيء محرم لا الخنزير ولا غيره بل ولا شيء نجس ، لا البول ولا غيره وزعموا أن بعض أكابرهم رأى ملاءة صور له فيها صور الحيوان وقيل له كل ما طابت نفسك ودع ما تكره وأنه أبيح لهم جميع الحيوان ونسخوا شرع التوراة بمجرد ذلك ، فالحلال عندهم ما اشتهته أنفسهم والحرام عندهم ما كرهته أنفسهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق فأحل لهم الله الطيبات وحرم عليهم الخبائث وأزال عنهم الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل خلافا لليهود وأمرهم بالطهارة طهارة الحدث والخبث خلافا للنصارى . والمسيح - عليه السلام - جعلته اليهود ولد زنا كذابا ساحرا ، وجعلته النصارى هو الله خالق السماوات والأرض فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه [ ص: 265 ] فشهدوا أنه عبد الله مخلوق خلافا للنصارى وأنه رسول وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين خلافا لليهود وأما التصديق والتكذيب ، فإن اليهود من شأنهم التكذيب بالحق والنصارى من شأنهم التصديق بالباطل ، فإن اليهود كذبوا من كذبوه من الأنبياء وقد جاءوا بالحق ; كما قال - تعالى - : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون والنصارى يصدقون بمحالات العقول والشرائع ; كما صدقوا بالتثليث والاتحاد ونحوهما من الممتنعات .

التالي السابق


الخدمات العلمية