[ ص: 291 ] وهنا أصل لا بد من بيانه وهو أنه قد دلت النصوص على أن . الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولا تقوم به الحجة عليه
قال - تعالى - : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال - تعالى - : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال - تعالى - : عن أهل النار كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء وقال : [ ص: 292 ] وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقال - تعالى - : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وقال - تعالى - : وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقال - تعالى - : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا إلى قوله : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون .
[ ص: 293 ] وقال - تعالى - : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب وقوله : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير وإذا كان كذلك فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه كقوله : لأنذركم به ومن بلغ فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة بما بلغه دون ما لم يبلغه فلا يمنع أن يقال ذلك في أهل الكتاب قبلنا فمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب قبلنا لم تقم عليه الحجة إلا بما بلغه وما خفي عليهم معناه منه فاجتهد في معرفته ، فإن [ ص: 294 ] أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وخطأه محطوط عنه فأما من تعمد تحريف الكتاب لفظه أو معناه وعرف ما جاء به الرسول فعانده فهذا مستحق للعقاب وكذلك من فرط في طلب الحق واتباعه متبعا لهواه مشتغلا عن ذلك بدنياه . فإذا اشتبه معنى بعض الآيات وتنازع الناس في تأويل الآية وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله فإذا اجتهد الناس في فهم ما أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر
وعلى هذا فإذا كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب وفيهم آخرون لم يعلموا ذلك فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول لم يجب أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد وإذا جاز أن يكون في أهل الكتاب من لم يعرف جميع ما جاء به المسيح بل خفي عليه بعض ما جاء به أو بعض معانيه فاجتهد لم يعاقب على ما لم يبلغه وقد تحمل أخبار اليهود الذين كانوا مع تبع والذين كانوا ينتظرون الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل المدينة كابن التيهان وغيره على هذا وأنهم لم يكونوا مكذبين للمسيح تكذيب غيرهم من اليهود .
[ ص: 295 ] وقد تنازع الناس . هل يمكن مع الاجتهاد واستفراغ الوسع أن لا يبين للناظر المستدل صدق الرسول أم لا . وإذا لم يبين له ذلك هل يستحق العقوبة في الآخرة أم لا ؟
وتنازع بعض الناس في المقلد منهم أيضا والكلام في مقامين : المقام الأول : في بيان خطأ المخالف للحق وضلاله وهذا مما يعلم بطرق متعددة عقلية وسمعية وقد يعرف الخطأ في أقوال كثيرة من أهل القبلة المخالفين للحق وغير أهل القبلة بأنواع متعددة من الدلائل .
والمقام الثاني : الكلام في كفرهم واستحقاقهم الوعيد في الآخرة .
فهذا فيه ثلاثة أقوال للناس من أصحاب الأئمة المشهورين [ ص: 296 ] مالك والشافعي لهم الأقوال الثلاثة . وأحمد
قيل : أنه يعذب في النار من لم يؤمن وإن لم يرسل إليه رسول لقيام الحجة عليه بالعقل وهذا قول كثير ممن يقول بالحكم العقلي من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم وهو اختيار أبي الخطاب .
وقيل : لا حجة عليه بالعقل بل لا يجوز أن يعذب من لم يقم عليه حجة لا بالشرع ولا بالعقل وهذا قول من يجوز وهذا قول كثير من أهل الكلام تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم كالجهم وأصحابه وأبي الحسن الأشعري والقاضي [ ص: 297 ] أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم .
والقول الثالث : وعليه السلف والأئمة إنه . لا يعذب إلا من بلغته الرسالة ولا يعذب إلا من خالف الرسل ; كما دل عليه الكتاب والسنة
قال - تعالى - : لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وإذا كان كذلك فنحن فيما نناظر فيه أهل الكتاب : متقدميهم ومتأخريهم تارة نتكلم في المقام الأول وهو بيان مخالفتهم للحق وجهلهم وضلالهم فهذا تنبيه لجميع الأدلة الشرعية والعقلية وتارة نبين كفرهم الذي يستحقون به العذاب في الدنيا والآخرة فهذا [ ص: 298 ] أمره إلى الله ورسوله لا يتكلم فيه إلا بما أخبرت به الرسل ; كما أنا أيضا لا نشهد بالإيمان والجنة إلا لمن شهدت له الرسل أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة فيبعث الله إليهم من يأمرهم بطاعته ، فإن أطاعوه استحقوا الثواب وإن عصوه استحقوا العقاب . ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال والمجانين وأهل الفترات فهؤلاء فيهم أقوال
[ ص: 299 ] [ ص: 300 ] [ ص: 301 ] وإذا كان كذلك فنحن نشهد لمن كان مؤمنا بموسى متبعا له أنه مؤمن مسلم مستحق للثواب .
وكذلك من كان مؤمنا بالمسيح متبعا له ونشهد لمن قامت عليه الحجة بموسى فلم يتبعه كآل فرعون أنهم من أهل النار .
وكذلك من قامت عليه الحجة بالمسيح الذين قال الله فيهم : قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين والذين قال فيهم : ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين وأما من بعد عهده بالمسيح وبلغته بعض أخباره دون بعض أو بموسى وبلغه أخباره دون بعض ، فهؤلاء قامت عليهم الحجة بما بلغهم من أخبارهم دون ما لم يبلغهم من أخبارهم وإذا اختلفوا في تأويل بعض التوراة والإنجيل فمن قصد الحق واجتهد في طلبه لم يجب [ ص: 302 ] أن يعذب وإن كان مخطئا للحق جاهلا به ضالا عنه كالمجتهد في طلب الحق من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وعلى هذا فإذا قيل : أن الحواريين أو بعضهم أو كثيرا من أهل الكتاب أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن المسيح نفسه صلب كانوا مخطئين في ذلك ولم يكن هذا الخطأ مما يقدح في إيمانهم بالمسيح إذا آمنوا بما جاء به ولا يوجب لهم النار ، فإن الأناجيل التي بأيدي أهل الكتاب فيها ذكر صلب المسيح وعندهم أنها مأخوذة عن الأربعة مرقس ولوقا ويوحنا [ ص: 303 ] ومتى ولم يكن في الأربعة من شهد صلب المسيح ولا من الحواريين بل ولا في أتباعه من شهد صلبه وإنما اليهود فمن الناس من يقول أنهم : علموا أن المصلوب غيره وتعمدوا الكذب في أنهم صلبوه وشبه صلبه على من أخبروهم وهذا قول طائفة من أهل الكلام الذين شهدوا الصلب طائفة من المعتزلة وغيرهم وهو قول ابن حزم [ ص: 304 ] وغيره ومنهم من يقول بل ، والأولون يقولون أن قوله : اشتبه على الذين صلبوه وهذا قول أكثر الناس وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم أي شبه للناس الذين أخبرهم أولئك بصلبه .
الجمهور يقولون : بل شبه للذين يقولون صلبوه كما قد ذكرت القصة في غير هذا الموضع . والمقصود هنا أن الناس في هذا المقام على طرفين ووسط .
[ ص: 305 ] أما الطرف الواحد : فهم النصارى الذين يدعون أن الغلاة من الحواريين كانوا معصومين فيما يقولونه ويروونه ويرونه ، وكذلك يقولون بتصويب علماء النصارى فيما يقولونه من تأويل الإنجيل .
والطرف الآخر يقول : بل كل من غلط وأخطأ في شيء من ذلك فإنه مستحق للوعيد بل كافر .
والثالث : الوسط : أنهم لا يعصمون ولا يؤثمون بل قد يكونون مخطئين خطأ مغفورا لهم إذا كانوا مجتهدين في معرفة الحق واتباعه بحسب وسعهم وطاقتهم وعلى هذا تدل الأدلة الصحيحة وكتب الله تدل على ذم الضال والجاحد ومقته مع أنه لا يعاقب إلا بعد إنذاره .
وقد ثبت في الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي [ ص: 306 ] - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : . إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب
فأخبر أنه مقتهم إلا هؤلاء البقايا ، والمقت هو البغض بل أشد البغض ومع هذا فقد أخبر في القرآن أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا فقال : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى فدل ذلك على أن المقتضي لعذابهم قائم ، ولكن شرط العذاب هو بلوغ الرسالة ولهذا قال لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : . ما أحد أحب إليه العذر من الله ؛ من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب
وفي رواية . من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين [ ص: 307 ] وما أحد أحب إليه المدح من الله ؛ من أجل ذلك مدح نفسه ، وما أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن
وقد تنازع الناس في كحسن العدل والتوحيد والصدق وقبح الظلم والشرك والكذب هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالسمع وإذا قيل أنه يعلم بالعقل فهل يعاقب من [ ص: 308 ] فعل ذلك قبل أن يأتيه رسول ؟ على ثلاثة أقوال معروفة في أصحاب الأئمة وغيرهم ، وهي ثلاثة أقوال لأصحاب حسن الأفعال وقبحها وغيرهم فقالت طائفة لا يعرف ذلك إلا بالشرع لا بالعقل ، وهذا قول نظار المجبرة الإمام أحمد وأمثاله ، وهو قول كالجهم بن صفوان وأتباعه من أصحاب الأئمة الأربعة أبي الحسن الأشعري كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي [ ص: 309 ] وأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم وقيل بل قد . يعلم حسن الأفعال وقبحها بالعقل
قال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين .
وهذا هو المنقول عن أبي حنيفة نفسه وعليه عامة أصحابه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأهل الحديث وأحمد كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وأبي بكر القفال وأبي نصر [ ص: 310 ] السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وهو قول الكرامية وغيرهم من نظار المثبتة للقدر وهو قول المعتزلة وغيرهم [ ص: 311 ] من نظار القدرية ، ثم هؤلاء على قولين : منهم من يقول : يستحقون عذاب الآخرة بمجرد مخالفتهم للعقل كقول المعتزلة والحنفية وأبي الخطاب ، وقول هؤلاء مخالف للكتاب والسنة .
ومنهم من يقول بل لا يعذبون حتى يبعث إليهم رسول ; كما دل عليه الكتاب والسنة . لكن أفعالهم تكون مذمومة ممقوتة يذمها الله ويبغضها ويوصفون بالكفر الذي يذمه الله ويبغضه وإن كان لا يعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا ; كما قال : النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح ; كما تقدم قريش ، فأنذرهم قلت إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة .
قال : " إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظان فابعث جندا أبعث مثليهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق أنفق عليك . إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وإن ربي قال : لي قم في
وقال : . إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به [ ص: 312 ] سلطانا
وقال : النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح . كل مولود يولد على الفطرة
وفي رواية - رضي الله عنه - اقرءوا إن شئتم أبو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها قيل يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ومع [ ص: 313 ] مقت الله لهم فقد أخبر أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا وهذا يدل على إبطال قول من قال : أنهم لم يكونوا مسيئين ولا مرتكبين لقبيح حتى جاء السمع . وقول من قال : أنهم كانوا معذبين بدون السمع إما لقيام الحجة بالعقل ; كما يقوله من يقوله من على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ; كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول القدرية وإما لمحض المشيئة ; كما يقوله المجبرة .
قال - تعالى - : وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقال - تعالى - : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ ص: 314 ] وقال - تعالى - : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى فهذا يبين أنه لم يكن ليعذب الكفار حتى يبعث إليهم رسولا ، وبين أنهم قبل الرسول كانوا قد اكتسبوا الأعمال التي توجب المقت والذم وهي سبب للعذاب ، لكن شرط العذاب قيام الحجة عليهم بالرسالة .