[ ص: 268 ] فصل
قالوا وأما تعظيمه لإنجيلنا وكتبنا التي بأيدينا فيقول : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وقال : في سورة آل عمران : الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس . وقال : في سورة البقرة الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون . فأعني بالكتاب الإنجيل والذين يؤمنون بالغيب نحن [ ص: 269 ] النصارى الذين آمنا بالمسيح وما رأيناه ، ثم اتبع بالقول والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك فأعني بهم المسلمين الذين آمنوا بما آتى به وما أتى من قبله وقال : في سورة المائدة وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وقال في سورة آل عمران : فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس .
وقال : أيضا : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين .
فثبت بهذا ما معنا لما فيها بتصديقه إياها . ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل والتغيير
[ ص: 270 ] والجواب : بعد أن تعرف أن لفظ الآية الأولى من سورة المائدة وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه . أن يقال : أما تصديق خاتم الرسل محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل الله قبله من الكتب ولمن جاء قبله من الأنبياء فهذا معلوم بالاضطرار من دينه متواترا تواترا ظاهرا كتواتر إرساله إلى الخلق كلهم وهذا من أصول الإيمان .
قال - تعالى - : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم وقال - تعالى - : قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ ص: 271 ] وقال : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
وقال - تعالى - : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين وتصديقه للتوراة والإنجيل مذكور في مواضع من القرآن وقد قال وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه .
[ ص: 272 ] وقال - تعالى - : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني وقال : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن فبين أنه أنزل هذا والمهيمن الشاهد المؤتمن الحاكم يشهد بما فيها من الحق وينفي ما حرف فيها ويحكم بإقرار ما أقره الله من أحكامها وينسخ ما نسخه الله منها وهو مؤتمن في ذلك عليها وأخبر أنه أحسن الحديث وأحسن القصص وهذا يتضمن أنه القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتب وكذلك من كان متمسكا بالإنجيل من غير تبديل شيء من أحكامه قبل النسخ فهو من أهل الإيمان والهدى وليس في ذلك مدح لمن تمسك بشرع مبدل فضلا عمن تمسك بشرع منسوخ ولم يؤمن بما أرسل الله إليه من الرسل وما أنزل إليه من الكتب بل قد بين كفر كل من كان متمسكا بالتوراة قبل النسخ من غير تبديل شيء من أحكامها ، فإنه من أهل الإيمان والهدى اليهود والنصارى بتبديل الكتاب الأول وبترك الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في غير موضع .
وأما تأويلهم قوله : ذلك الكتاب أنه الإنجيل و الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون [ ص: 273 ] عنى بهم النصارى فهو من ; كما فعلوه في قوله : تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل كلام الله ومن يبتغ غير الإسلام دينا وفي قوله : بإذني أي باللاهوت وفي قوله : اهدنا الصراط المستقيم .
وفي غير ذلك مما ذكروه وتأولوه من القرآن على غير المعنى الذي أراد الله به وهذا مما يؤيد أنهم فعلوا كذلك بالتوراة والإنجيل ، فإنه إذا كان القرآن الذي قد عرف تفسيره والمراد به العام والخاص ونقل ذلك عن الرسول نقلا متواترا حتى عرف معناه علما يقينا اضطراريا فيبدلون معناه ويحرفون الكلم عن مواضعه فماذا يصنعون بالتوراة والإنجيل ولم ينقل لفظ ذلك ومعناه ; كما نقل القرآن وليس في أهل تلك الكتب من يذب عن لفظها ومعناها ; كما يذب المسلمون عن لفظ القرآن ومعناه ؟ .
وهؤلاء غرهم قوله : ذلك الكتاب فظنوا أن لفظ ذلك لما كان يشار بها إلى الغائب أشير بها إلى الإنجيل .
فيقال : لهم هذا كقوله : ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم وأشار بذلك إلى ما تلاه قبل هذه الآية ، وقوله : واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم [ ص: 274 ] وقوله : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومثله قوله - تعالى - : بعد أن ذكر خبر يوسف الصديق ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وقال أيضا : لما ذكر خبر مريم : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم ; كما قال : لما ذكر آيات يخبر فيها عن نوح تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك وقال : الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وتلك في المؤنث مثل ذلك في المذكر ومع هذا فأشار إلى [ ص: 275 ] القرآن ومنه قوله : الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين وقوله : طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين ومنه قوله : طسم تلك آيات الكتاب المبين ومنه قوله : حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم وقوله : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا وقوله : المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق الآية .
ومثل هذا كثير وذلك أنه لما أنزل قوله : ذلك الكتاب تلك آيات الكتاب ونحو ذلك لم يكن الكتاب المشار إليه قد أنزل تلك الساعة وإنما كان قد أنزل قبل ذلك فصار كالغائب الذي يشار إليه ; كما يشار إلى الغائب وهو باعتبار حضوره عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يشار إليه ; كما يشار إلى الحاضر ; كما قال - تعالى - : وهذا ذكر مبارك أنزلناه [ ص: 276 ] ولهذا قال : غير واحد من السلف ذلك الكتاب أي هذا الكتاب يقولون المراد هذا الكتاب وإن كانت الإشارة تكون تارة إشارة غائب وتارة إشارة حاضر وقد قال هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب وقد النصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأنهم كافرون ظالمون فكيف يجعلهم المتقين الذين يؤمنون بالغيب . وصف
قال - تعالى - : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
وأول التقوى تقوى الشرك وقد النصارى بالشرك في قوله : [ ص: 277 ] وصف اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون وقال - تعالى - : لما ذكر المسيح فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وقال - تعالى - : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقوله : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ونهى عن موالاتهم فقال ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقد أخبر أن الله ولي المتقين فقال ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين [ ص: 278 ] فلو كانوا من المتقين فضلا عن أن يكونوا هم المتقين لكان الله وليهم ولكانت موالاتهم واجبة على المؤمنين وهو قد نهى عن موالاتهم وجعل من يتولاهم ظالما وجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكفار بعضهم أولياء بعض ولهذا لما قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين الكافرين .
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح . لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم
واتفق المسلمون على أن ; لأن الله قطع الموالاة بينهما وقد قال - تعالى - : اليهودي والنصراني لا يرث مسلما ولو كان ابنه وأباه لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وأيضا فإنه قال - تعالى - : الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة [ ص: 279 ] وهي الصلاة التي أمر بها في قوله : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا وقد قال : لا يقبل الله صلاة بغير طهور والنصارى يصلون بغير طهور .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : وهم لا يقرؤونها . والصلاة التي فرضها وأثنى عليها مشتملة [ ص: 280 ] على استقبال لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب الكعبة وعلى ركوع وسجدتين في كل ركعة وغير ذلك مما لا يفعله النصارى فكيف يمدحهم بإقامة الصلاة وهم لا يقيمون الصلاة التي أمر بإقامتها .
ثم لو قال اليهودي المراد بقوله : ذلك الكتاب التوراة وبالمتقين اليهود لكان هذا مع بطلانه أقرب من قول القائل أن المراد بالكتاب الإنجيل ; لأن التوراة أحق بذلك من الإنجيل ، فإنها الأصل والله تعالى يقرن بينها وبين القرآن في غير موضع كقوله : أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وقوله - تعالى - : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
وقد قالت الجن لما سمعت القرآن قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم وقال : لما سمع القرآن إن هذا والذي جاء به النجاشي موسى ليخرج من مشكاة واحدة وكذلك ورقة بن نوفل قال : هذا [ ص: 281 ] هو الناموس الذي كان ينزل على موسى بن عمران .
وقال - تعالى - : قالوا : لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا أي : التوراة والقرآن . وقالوا ساحران تظاهرا أي موسى ومحمد وقالوا إنا بكل كافرون .
قال الله : قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فقد بين أنه لم يأت من عند الله كتاب أهدى من التوراة والقرآن .
وقال - تعالى - : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون .
[ ص: 282 ] وأما قوله - تعالى - : والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك فهي صفة ثانية للذين يؤمنون بالغيب مجملا ، ثم وصفهم بإيمان مفصل بما أنزل إليك وما أنزل من قبله . والعطف بالواو يكون لتغاير الذوات ويكون لتغاير الصفات كقوله - تعالى - : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى والذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى وهو الذي أخرج المرعى وكذلك قوله - تعالى - : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ومثله قوله : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون .
[ ص: 283 ] فهم صنف واحد وصفهم بهذه الصفات بحرف الواو وكذلك في قوله : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون .
وقد فسر قبل قوله : يؤمنون بالغيب صفة المؤمنين من غير أهل الكتاب كمشركي العرب ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك صفة من آمن به من أهل الكتاب .
وعلى هذا القول : هؤلاء غير هؤلاء ، لكن هذا ضعيف ، فإنه لا بد في المؤمنين من غير أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله ولا بد في مؤمن أهل الكتاب أن يؤمن بالغيب . فكل من الإيمانين [ ص: 284 ] واجب على كل واحد ولا يكون أحد على هدى من ربه مفلحا إلا بهذا وهذا .
وأما قول النصارى نحن الذين آمنا بالسيد المسيح وما رأيناه فهكذا اليهود آمنوا بموسى - عليه السلام - وما رأوه والمسلمون آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما رأوه بل المسلمون آمنوا بموسى وعيسى وسائر النبيين وما رأوهم بخلاف اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض . ثم الغيب ليس المراد به صورة النبي - عليه السلام - ، فإن صورة النبي ليست من الغيب ، فإن الناس يرونها وليس في رؤيتها ما يوجب إيمانا ولا كفرا ، ولكن الغيب ما غاب عن مشاهدة الخلق وهو ما أخبرت به الأنبياء من الغيب فيدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وهو الإيمان بأنهم رسل الله ، وسواء رؤيت أبدانهم أو لم تر فقد يراهم من لم يؤمن برسالتهم وقد يؤمن برسالتهم من لم يرهم .
والمقصود الإيمان برسالتهم لا بنفس صورهم حتى يقول القائل آمنا بنبي ولم نره وقد يعلم من دلائل نبوته وأعلام رسالته من لم يره أكثر مما يعلمها من رآه .
[ ص: 285 ] فصل
وأما قوله : في سورة المائدة وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون فهذا ثناء منه على المسيح والإنجيل وأمر للنصارى بالحكم بما أنزل فيه ; كما أثنى على موسى والتوراة بأعظم مما عظم به المسيح والإنجيل فقال تعالى : ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي : قائلون للكذب مصدقون مستجيبون مطيعون لقوم آخرين [ ص: 286 ] لم يأتوك فهم مصدقون للكذب مطيعون لمن يخالفك وأنت رسول الله .
فكل من تصديق الكذب والطاعة لمن خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الذنوب .
ولفظ السميع يراد به الإحساس بالصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به قبوله فيقال : فلان سمع ما يقول فلان أي يصدقه أو يطيعه ويقبل منه .
فقوله : سماعون للكذب أي مصدقون به وإلا مجرد سماع صوت الكاذب وفهم كلامه ليس مذموما على الإطلاق .
وكذلك سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي مستجيبون لهم مطيعون ; كما قال : في حق المنافقين وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون مطيعون لهم ومن قال : إن المراد به الجاسوس فهو غالط كغلط من قال : سماعون لهم هم الجواسيس ، فإن الجاسوس إنما ينقل خبر القوم إلى من لا يعرفه ، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ما يذكره ويأمر به ويفعله يراه ويسمعه كل من بالمدينة مؤمنهم ومنافقهم ولم يكن يقصد أن يكتم يهود المدينة ما يقوله ويفعله خلاف من كان يأتيه من اليهود وهم يصدقون الكذب ويطيعون لليهود [ ص: 287 ] الآخرين الذين لم يأتوه والله نهى نبيه أن يحزنه المسارعون في الكفر من هاتين الطائفتين المنافقتين الذين أظهروا الإيمان به ولم تؤمن قلوبهم ومن أهل الكتاب الذين يطلبون أن يحكم بينهم وليس مقصودهم أن يطيعوه ويتبعوا حكمه بل إن حكم بما يهوونه قبلوه وإن حكم بخلاف ذلك لم يقبلوه لكونهم مطيعين لقوم آخرين لم يأتوه .
قال - تعالى - : سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين أي لم يأتك أولئك القوم الآخرون يقولون أي يقول السماعون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم والحكم يفتقر إلى الصدق والعدل فلا بد أن يكون الشاهد صادقا والحاكم عادلا وهؤلاء يصدقون الكاذبين من الشهود ويتبعون حكم المخالفين للرسل الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وإذا لم يكن قصدهم اتباع الصدق والعدل فليس عليك أن تحكم بينهم بل إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فلا تحكم .
[ ص: 288 ] ولكن إذا حكمت فلا تحكم إلا بما أنزل الله إليك إذ هو العدل .
قال - تعالى - : سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ، ثم قال وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون فهذا ثناؤه على التوراة وإخباره أن فيها حكم الله وأنه أنزل التوراة وفيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال : عقب ذكرها ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ ص: 289 ] وهذا أعظم مما ذكره في الإنجيل ، فإنه قال : في الإنجيل وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور وقال فيه : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وقال : في التوراة يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال : عقب ذكرها ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فهو سبحانه مع إخباره بإنزال الكتابين يصف التوراة بأعظم مما يصف به الإنجيل .
كما قال - تعالى - : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وإذا كان ما ذكره من مدح موسى والتوراة لم يوجب ذلك مدح اليهود الذين كذبوا المسيح ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 290 ] وليس فيه ثناء على دين اليهود المبدل المنسوخ باتفاق المسلمين والنصارى ، فكذلك أيضا ما ذكره من مدح المسيح والإنجيل ليس فيه مدح النصارى الذين كذبوا محمدا وبدلوا أحكام التوراة والإنجيل واتبعوا المبدل المنسوخ ، واليهود توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح للنصارى ، والنصارى توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح لليهود بعد النسخ والتبديل . فعلم اتفاق أهل الملل كلها : المسلمون واليهود والنصارى على أنه ليس فيما ذكر في القرآن من ذكر التوراة والإنجيل وموسى وعيسى مدح لأهل الكتاب الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولا مدح لدينهم المبدل قبل مبعثه فليس في ذلك مدح لمن تمسك بدين مبدل ولا بدين منسوخ ، فكيف بمن تمسك بدين مبدل منسوخ .