الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 346 ] قالوا : وقال في سورة آل عمران : فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس .

فيقال : قد تقدم أن الرسل تتناول قطعا الرسل الذين ذكرهم الله في القرآن لا سيما أولو العزم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، فإن هؤلاء مع محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين - صلوات الله عليهم وسلامه - خصهم الله وفضلهم بقوله - تعالى - : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما [ ص: 347 ] وفي قوله - تعالى - : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه فالدين دين رسل الله دين واحد ; كما بينه الله في كتابه وكما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وأن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي .

ويتناول أيضا اسم الرسل من لم يسمهم بأعيانهم في القرآن قال - تعالى - : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما

[ ص: 348 ] وقال - تعالى - : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وأما الحواريون ، فإن الله - تعالى - ذكرهم في القرآن ووصفهم بالإسلام واتباع الرسول وبالإيمان بالله ; كما أنزل في قوله - تعالى - : فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين وقال - تعالى - : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون وقال - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين .

[ ص: 349 ] ولم يذكر الله تعالى في القرآن أنه أرسلهم البتة بل ذكر أنه ألهمهم الإيمان به وبرسوله وأنهم أمروا باتباع رسوله وقوله : وإذ أوحيت إلى الحواريين لا يدل على النبوة ، فإنه قال - تعالى - : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه

وأم موسى لم تكن نبية بل ليس في النساء نبية ; كما تقوله : عامة النصارى والمسلمين .

وقد ذكر إجماعهم على ذلك غير واحد مثل القاضيين أبي بكر بن الطيب وأبي يعلى بن أبي الفراء والأستاذ أبي المعالي الجويني وغيرهم ويدل على ذلك قوله - تعالى - : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وقوله - تعالى - : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة فجعل غاية مريم الصديقية ; كما جعل غاية المسيح الرسالة .

[ ص: 350 ] وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم يعني من نساء الأمم قبلنا ، وهذا يدل على أن أم موسى ليست ممن كمل من النساء فكيف تكون نبية ، وقوله - تعالى - : جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير والكتاب اسم جنس كما تقدم يتناول كل كتاب أنزله الله تعالى ، وقال - تعالى - : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وقوله : ولا كتاب منير نكرة في سياق المعنى فيعم كل كتاب منير ، ولو لم يكن إلا الإنجيل لقيل ولا الكتاب المنير ، وأيضا [ ص: 351 ] فالتوراة أعظم من الإنجيل ، وقد بين الله أنه لم ينزل كتابا أهدى من التوراة والقرآن ، فقال تعالى : قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران وقرئ ساحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين وهذا تعجيز لهم أن يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما كقوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وهذا يبين أنه ليس الإنجيل ولا الزبور أهدى من التوراة والقرآن فكيف يجعل الكتاب المنير هو الإنجيل دون التوراة والزبور .

وأيضا فإن الله تعالى إنما يخص بالذكر من الكتب المتقدمة التوراة دون غيرها فهي التي يقرنها بالقرآن ، كقوله - تعالى - : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون [ ص: 352 ] وقد وصف التوراة بأن فيها نورا وهدى للناس فكيف يجعل النور في الإنجيل دونها وقال - تعالى - : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين فقد ذكر التوراة والقرآن ، وقولهم أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فبين أن الكتاب اسم جنس يتناول هنا التوراة والإنجيل ، كقوله - تعالى - : ياأهل الكتاب وقوله - تعالى - : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فذكر الكتاب بلفظ المنفرد ، ومعلوم أنه أراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا اليهود والنصارى لا يختص ذلك بالنصارى ; كما قال : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا .

[ ص: 353 ] وقد تبين بطلان قول هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويفسرون كلام الله ورسوله بما يعلم كل من عرف حاله من مؤمن وكافر أنه لم يرده .

وبين أن الله لم يرد بالكتاب الإنجيل وحده ; كما لم يرد بالرسل الحواريين بل أراد بالكتاب المنير ما أنزله الله من الكتب كالتوراة والإنجيل ; كما أراد بالرسل من أرسله الله مطلقا كنوح وإبراهيم وموسى والمسيح ابن مريم - صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين - .

التالي السابق


الخدمات العلمية