[ ص: 354 ] قالوا : وقال أيضا : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين فيقال : لهم من المعلوم بالاضطرار أنه ليس المراد بهذا النصارى فقط ; كما تقدم ، بل اليهود يقرءون الكتاب من قبلنا والنصارى يقرءون الكتاب من قبلنا ، والكتاب اسم جنس ; كما تقدم نظائره في قوله : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وقوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب وقوله : ياأهل الكتاب في غير موضع ، وقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وقوله - تعالى - : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد [ ص: 355 ] وقد قال - تعالى - : ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا . وتناول لفظ أهل الكتاب هنا لليهود أظهر من تناوله للنصارى لذكره لعنة أصحاب السبت ، وكذلك قوله - تعالى - : وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون فهذا خبر عن طائفة من اليهود قالوا : ذلك وقال - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين [ ص: 356 ] وسبب نزولها أنه أراد طائفة من اليهود إلقاء الفتنة بين المسلمين . فهم داخلون قطعا ، وإن كان الخطاب مطلقا يتناول الطائفتين .
وأمره تعالى بسؤال الذين يقرءون الكتاب من قبله على تقدير الشك لا يقتضي أن يكون الرسول شك ولا سأل ، إن قيل الخطاب له ، وإن قيل لغيره فهو أولى وأحرى ؛ فإن تعليق الحكم بالشرط لا يدل على تحقيق الشرط بل قد يعلق بشرط ممتنع لبيان حكمه .
قال - تعالى - : ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين فأخبر أنهم لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون مع انتفاء [ ص: 357 ] الشرك عنهم ، بل مع امتناعه لأنهم قد ماتوا ; لأن به . الأنبياء معصومون من الشرك
وقال - تعالى - : قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين فهذا خطاب للجميع . وذكر هنا لفظ إن لأنه خطاب لموجود . وهناك خبر عن ميت وكذلك قوله : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل لا يدل على وقوع الشك ، ولا السؤال ، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شاكا ولا سأل أحدا منهم بل روي عنه أنه قال : والله لا أشك ولا أسأل .
[ ص: 358 ] ولكن . المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون
كما قال - تعالى - : في الآية الأخرى قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب وقال - تعالى - : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال - تعالى - : أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل وقال - تعالى - : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين وقال : إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .
[ ص: 359 ] وقال - تعالى - : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وقال - تعالى - : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وقال - تعالى - : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال - تعالى - : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فالمقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون وذلك من وجوه .
أحدها : أن موسى وغيره دعوا إلى عبادة الله وحده ونهوا عن الشرك فكان في هذا حجة على من ظن أن الشرك دين . الكتب المتقدمة تنطق بأن
ومثل هذا قوله - تعالى - : .
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون .
[ ص: 360 ] وقوله - تعالى - : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقوله - تعالى - : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين .
الوجه الثاني : أن ، فإن من الكفار من كان يزعم أن الله لا يرسل إلا ملكا أو بشرا معه ملك ويتعجبون من إرسال بشر ليس معه ملك ظاهر ; كما قال - تعالى - : أهل الكتاب يعلمون أن الله إنما أرسل إلى الناس بشرا مثلهم لم يرسل إليهم ملكا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وقال - تعالى - : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين [ ص: 361 ] وقال - تعالى - : كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر وكذلك قال الذين من بعدهم ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون وكذلك قال قوم فرعون لموسى وهارون أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون وقال : فرعون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين وكذلك قالوا : لمحمد وقال : [ ص: 362 ] تعالى الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين وقال - تعالى - : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون .
فبين سبحانه أنكم لا تطيقون التلقي عن الملك فلو أنزلناه ملكا لجعلناه في صورة بشر وحينئذ كنتم تظنونه بشرا فيحصل اللبس عليكم فأمر الله تعالى بسؤال أهل الكتاب عمن أرسل إليهم أكان بشرا أم كان ملكا ليقيم الحجة بذلك على من أنكر إرسال بشر ; كما قال - تعالى - : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين وأهل الذكر هم أهل الذكر الذي أنزله الله تعالى .
[ ص: 363 ] الوجه الثالث : أنهم يسألون أهل الكتاب عما جرى للرسل مع أممهم وكيف كان عاقبة المؤمنين بهم ، وعاقبة المكذبين لهم .
الوجه الرابع : يسألون أهل الكتاب عن الدين الذي بعث الله به رسله وهو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل وبر الوالدين وصلة الأرحام والنهي عن الشرك والظلم والفواحش .
الوجه الخامس : يسألونهم عما وصفت به الرسل ربهم هل هو موافق لما وصفه به محمد أم لا ؟ وهذه الأمور المسؤول عنها متواترة عند أهل الكتاب معلومة لهم ليست مما يشكون فيه وليس إذا كان مثل هذا معلوما لهم بالتواتر فيسألون عنه يجب أن يكون كل ما يقولونه معلوما لهم بالتواتر .
وأيضا ، فإنهم يسألون أيضا عما عندهم من الشهادات والبشارات بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقد أخبر الله بذلك في القرآن فقال تعالى : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم .
[ ص: 364 ] وقال - تعالى - : وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين
فقد عيسى أنه صدق بالرسول والكتاب الذي قبله وهو التوراة وبشر بالرسول الذي يأتي بعده وهو أخبر عن أحمد . قال - تعالى - : فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون إلى قوله : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال - تعالى - : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل وقال - تعالى - : عن من أثنى عليه من النصارى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا [ ص: 365 ] وقال - تعالى - : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا وقال - تعالى - : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وقال - تعالى - : ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وقال - تعالى - : في سورة الأنعام الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون [ ص: 366 ] وقال - تعالى - : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين محمد - صلى الله عليه وسلم - عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم . والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة
وكان قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - تجري حروب وقتال بين العرب وبين أهل الكتاب فتقول أهل الكتاب قد قرب مبعث هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمي الذي يبعث بدين إبراهيم فإذا ظهر اتبعناه وقتلناهم معه شر قتلة فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كان منهم من آمن به ومنهم من كفر به فقال تعالى : وكانوا من قبل يستفتحون أي يستنصرون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطابه لأهل الكتاب يقول لهم وكذلك من أسلم منهم والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني [ ص: 367 ] رسول الله كان يقول لغيره من أهل الكتاب والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أمر معروف في الأحاديث الصحاح المخرجة في الصحيحين وغيرهما فظهر بما ذكرناه تحريف هؤلاء لكلام الله وأنه لا حجة لهم فيما أنزل على كعبد الله بن سلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما تقدم نظائر ذلك .