[ ص: 31 ] وأما وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف مصحف ومضى عليها إلى مجيء قولهم كيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا محمد أكثر من ستمائة سنة ؟
فيقال : أما بعد انتشارها هذا الانتشار فلم يقل المسلمون ، بل ولا طائفة معروفة منهم إن ألفاظ جميع كل نسخة في العالم غيرت لكن جمهور المسلمين الذين يقولون إن في ألفاظها ما غير إنما يدعون تغيير بعض ألفاظها قبل المبعث ، أو تغيير بعض النسخ بعد المبعث لا تغيير جميع النسخ فبعض الناس يقول إن ذلك التغيير وقع في أول الأمر ويقول بعضهم إن منها ما غير بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يقولون إنه غير كل نسخة في العالم ، بل يقولون غير بعض النسخ دون البعض وظهر عند كثير من الناس النسخ المبدلة دون التي لم تبدل .
والنسخ التي لم تبدل هي موجودة عند بعض الناس .
ومعلوم أن هذا لا يمكن نفيه فإنه لا يمكن أحدا أن يعلم أن كل [ ص: 32 ] نسخة في العالم بكل لسان مطابق لفظها سائر النسخ بسائر الألسنة إلا من أحاط علما بذلك وهم قد سلموا أن أحدا لا يمكنه ذلك .
وأما من ذكر أن التغيير وقع في أول الأمر فهم يقولون إنما أخذت الأناجيل عن أربعة ، اثنان منهم لم يريا المسيح ، بل إنما رآه اثنان من نقلة الإنجيل متى ويوحنا .
ومعلوم إمكان التغير في ذلك .
وأما قولهم إنها مكتوبة باثنين وسبعين لسانا فمعلوم باتفاق النصارى أن المسيح لم يكن يتكلم إلا بالعبرية كسائر أنبياء بني إسرائيل ، وأنه كان مختونا ختن بعد السابع كما يختن بنو إسرائيل وأنه كان يصلي إلى قبلتهم لم يكن يصلي إلى الشرق ولا أمر بالصلاة إلى الشرق .
ومن قال إن لسانه كان سريانيا كما يظنه بعض الناس فهو غالط فالكلام المنقول عنه في الأناجيل إنما تكلم به عبريا ثم ترجم من تلك اللغة إلى غيرها .
. والترجمة يقع فيها الغلط كثيرا كما وجدنا في زماننا من يترجم التوراة من العبرية إلى العربية ويظهر في الترجمة من الغلط ما يشهد به الحذاق الصادقون ممن يعرف اللغتين
والنصارى يقولون إنما كتبت بأربع لغات : ( بالعبرية [ ص: 33 ] والرومية واليونانية والسريانية ) .
وأما قولهم إنها كتبت باثنين وسبعين لغة ، فهذا إن كان صحيحا فإنما كتبت بعد أن كتبت تلك الأربعة فإذا كان الغلط وقع في مواضع من تلك الأربعة ، لم يرفعه بعد ذلك كتابتها باثنين وسبعين لغة ، فإن المسلمين لا يقولون : إنها كتبت باثنين وسبعين لغة غير لفظها في جميع الألسن ( لاثنين وسبعين لغة في كل نسخة من ذلك ) .
وإنما يقال التغيير وقع قبل ذلك كما يقال في سائر ما ورد [ ص: 34 ] عن المسيح وموسى ( ومحمد - عليهم صلوات الله وسلامه - من الحديث مثل سيرة وأحاديث السنن ، والمساند المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن في العالم بكل كتاب منها نسخ كثيرة ، لا يمكن أن يغير منها فصل طويل ، ولكن في نفس السيرة وقع غلط في مواضع وأحاديث وقعت في السنن هي غلط في الأصل ( فاشتهار النسخ بها بعد ذلك لا يمنع وقوع الغلط في الأصل ) وهذه كتب التفسير والفقه والدقائق ، ما من كتاب إلا وبه نسخ كثيرة في العالم لا يمكن تغيير فصل طويل منها وفيها أحاديث غلط في الأصل . ابن إسحاق ،
والأناجيل التي بأيدي النصارى تشبه هذا ، ولهذا أمروا أن يحكموا بما فيها فإن فيها أحكام الله وعامة ما فيها من الأحكام لم يبدل لفظه وإنما بدلت بعض ألفاظ الخبريات وبعض معاني الأمريات كما نؤمر نحن أن نعمل بأحاديث الأحكام المعروفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن العلماء اعتنوا بضبطها أكثر من اعتنائهم بضبط الخبريات كأحاديث الزهد والقصص والفضائل ونحو ذلك ، إذ حاجة الأمم إلى معرفة الأمر والنهي أكثر من حاجتهم إلى معرفة التفاصيل بالخبريات التي يكتفى بالإيمان المجمل بها .
وأما الأمر والنهي ، فلابد من معرفته على وجه التفصيل ، إذ العمل بالمأمور لا يكون إلا مفصلا ، والمحظور الذي يجب اجتنابه لابد أن يميز بينه وبين غيره كما قال - - تعالى - :
[ ص: 35 ] وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون .
والنصارى لا يحتاجون عند أنفسهم إلى هذا فإنه لا يجب عندهم أن يتمسكوا بشرع منقول عن المسيح - عليه السلام - وعندهم لأكابرهم أن يشرعوا دينا لم يشرعه المسيح ، ويقولون : ما شرعه هؤلاء فقد شرعه المسيح فلم يكن لهم عناية ولا معرفة بشرع المسيح ، كما للمسلمين عناية ومعرفة بشرع محمد - صلى الله عليه وسلم - .