[ ص: 213 ] ثم قالوا : ورأينا الحي ينقسم قسمين : حيا ناطقا ، وحيا غير ناطق فوصفناه بأفضل الوصفين ، فقلنا : إنه ناطق لننفي الجهل عنه .
فيقال لهم : لا ريب أن الرب سبحانه موصوف بأنه حي عليم قدير متكلم مختار ، لكن قولهم : فقلنا إنه ناطق لننفي الجهل عنه يقتضي أنكم أردتم النطق المناقض للجهل ، وهذا هو العلم ، فإن العلم يناقض الجهل لم تريدوا بذلك النطق الذي هو العبارة والبيان ، ولم تريدوا بذلك ما جعله بعض النظار كلاما ، وهي معاني قائمة بالنفس ليست من جنس العلوم ، ولا من جنس الإرادات ، وحينئذ فيقال لكم : ليس في الأحياء إلا ما هو شاعر ، فكل حي فله شعور بحسبه .
وكلما قويت الحياة قوي شعورها ، وشعور الحيوان قد يعبر عنه بلفظ العلم ، كما يقول الناس : علم الفهد والبازي والكلب ، ويقال : كلب معلم وغير معلم وبازي معلم .
[ ص: 214 ] وقال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=4وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=68067إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله فقتل فكل ولا ريب أن العلم صفة كمال ، فالعالم أكمل من الجاهل ،
nindex.php?page=treesubj&link=28781والدلائل الدالة على علم الله كثيرة ، مثل أنه سبحانه خالق كل شيء بإرادته .
والإرادة تستلزم تصور المراد فلابد أن يعلم المخلوقات قبل أن يخلقها .
وكل ما وجد في الخارج فهو موجود وجودا معينا يمتاز به عن غيره ، فإذا خلقها كذلك فلابد أن يعلمها علما مفصلا يمتاز به كل معلوم عما سواه ، ولو قدر أنه علمها على وجه كلي فقط لم يكن علم منها شيئا ،
[ ص: 215 ] لأن الكلي إنما يكون كليا في الأذهان ، وأما ما هو موجود في الخارج فهو معين مختص بعينه ليس بكلي .
وكل واحد من الأفلاك معين ، فلو لم يعلم إلا الكليات لم يكن عالما بشيء من الموجودات ، وقد بسط في غير هذا الموضع تمام الكلام على هذا وبين فساد شبه نفاة ذلك بما ادعوه من لزوم التغيير أو التكثر ، وبين أنه لا يلزم من ثبوت علم الله بالأشياء كلها على وجه التفصيل محذور ينفيه دليل صحيح .
فإن التكثر فيما يقوم به من المعاني هو مدلول الأدلة العقلية والسمعية فإنه عالم قادر حي ، وليس العلم هو القدرة ، ولا القدرة هي الحياة ولا الصفة هي الموصوف ، ومن جعل كل صفة هي الأخرى ، وجعل الصفات هي الموصوف ، فهو قول في غاية السفسطة .
وأيضا فإنه خالق العالمين من الملائكة والجن والإنس ، وجاعلهم علماء ، فيمتنع أن يجعل غيره عالما من ليس هو في نفسه بعالم ، فإن العلم صفة كمال ، ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم ، وكل كمال للمخلوق فهو من الخالق ، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق ، وأيضا فإن في الممكنات المحدثة المخلوقة ما هو عالم ، والواجب القديم الخالق أكمل من الممكن المحدث ، فيمتنع أن يتصف بالكمال الموجود
[ ص: 216 ] الناقص الخسيس دون الموجود الكامل الشريف ، وهذا يتناول معنى حجتهم .
وأيضا فإنه حي ، والحياة مستلزمة لجنس العلم ، وإذا كانت حياته أكمل من كل حياة فعلمه أكمل من كل علم ، لكن يقال لكم : كما أنه حي عالم فهو أيضا قادر ، فما ذكرتم بأن الموجودات أو الأحياء تنقسم إلى قادر وغير قادر ، فيجب أن يوصف بأجل القسمين ، وهو القدرة .
لا سيما ودلائل كونه قادرا أظهر من دلائل كونه عالما ، فإن نفس كونه خالقا فاعلا يستلزم كونه قادرا ، فإن الفعل بدون القدرة ممتنع حتى إذا قيل : إن الجماد يفعل فإنما يفعل بقوة فيه كالقوى الطبيعية التي في الأجسام الطبيعية ، فيمتنع في خالق العالم أن لا يكون له قوة ، ولا قدرة ، قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=58إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين .
وقال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=15أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة .
وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري حديث الاستخارة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=651096اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب [ ص: 217 ] وكثير من نظار المسلمين المصنفين في أصول الدين الذين يقيمون الدليل على كونه قادرا قبل كونه عالما وحيا ، ويقولون : العلم بذلك أسبق في السلوك الاستدلالي النظري لدلالة الأحداث والفعل على قدرة المحدث الفاعل فيجب أن يثبتوا له صفة القدرة مع العلم .
وكذلك يقولون : إن الحي لما كان ينقسم إلى سميع ، وغير سميع ، وبصير ، وغير بصير ، وصفناه بأشرف القسمين ، وهو السميع والبصير .
وكذلك في النطق إذا أريد به البيان والعبارة ، ولم يرد به مجرد العلم ، أو معنى من جنس العلم فإن الحي ينقسم إلى متكلم ، ومبين معبر عما في نفسه ، وإلى ما ليس كذلك ، فيجب أن تصفوه بأشرف القسمين ، وهو الكلام المبين المعبر عنه عما في النفس من المعاني .
ومما يستدل به على ثبوت جميع صفات الكمال أنه
nindex.php?page=treesubj&link=29626_34084لو لم يوصف بكونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما لوصف بضد ذلك ، كالموت والجهل والعجز والصمم والبكم والخرس ، ومعلوم وجوب تقدسه عن هذه النقائص ، بل هذا معلوم بالضرورة العقلية ، فإنه أكمل الموجودات ، وأجلها وأعظمها ، ورب كل ما سواه وخالقه ومالكه ، وجاعل كل ما سواه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما ، فيمتنع أن يكون هو شيئا عاجزا جاهلا أصم أبكم أخرس ، بل من المعلوم بضرورة العقل أن المتصف بهذه النقائص يمتنع أن يكون فاعلا ، فضلا عن أن يكون خالقا لكل شيء .
[ ص: 218 ] ولبعض الملاحدة من المتفلسفة ومن اتبعهم هنا سؤال مشهور وهو : أنه إنما يلزم إذا لم يتصف بصفات الكمال أن يوصف بأضدادها إذا كان قابلا لها ، فأما إذا لم يكن قابلا لها لم يلزم .
قالوا : هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة ، وهو عدم الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كعدم الحياة والسمع والبصر .
والكلام عن الحيوان الذي هو القابل له ، فإذا لم يكن قابلا له كالجماد ، فلا يسمى مع عدم الحياة والسمع والبصر والكلام ميتا ولا أصم ولا أعمى ولا أخرس .
وجواب ذلك من أوجه :
أحدها : أنه إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال ، وإما أن لا يكون .
فإن لم يكن قابلا لزم أن يكون أنقص ممن قبلها ، ولم يتصف
[ ص: 219 ] بها ، فالجماد أنقص من الحيوان الذي لم يتصف بعد بصفات كماله ، وإن كان قابلا لها لزم إذا عدمها أن يتصف بأضدادها .
وهؤلاء قد يقولون : في إثباتها تشبيه له بالحيوان ، فيقال لهم : وفي نفيها تشبيه له بالجماد الذي هو أنقص من الحيوان ، فإذا لم يكن في نفيها تشبيه له بالجماد ، فكذلك لا يكون في إثباتها تشبيه له بالحيوان ، وإن كان في ذلك تشبيه بالحيوان فهو محذور ، فالمحذور في تشبيهه بالجماد أعظم وإن لم يكن مثل هذا التشبيه محذورا في ذلك ، فأن لا يكون محذورا في هذا بطريق الأولى .
الوجه الثاني : أن جعلهم سلب الموت والصمم والبكم عن الجماد لزعمهم أنه غير قابل لها اصطلاح محض ، فإنه موجود في كلام الله تسمية الجماد ميتا ، كما قال - تعالى - في الأصنام :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=21أموات غير أحياء .
الوجه الثالث : أنه يكفي عدم هذه الصفات ، فإن مجرد عدم الحياة والعلم والقدرة صفة نقص سواء قدر الموصوف قابلا لها أو غير قابل ، بل إذا قدر أنه غير قابل لها كان ذلك أبلغ في النقص .
فعلم أن نفي هذه الصفات عنه ، ونفي قبولها يوجب أن يكون أنقص من الحيوان الأعمى الأصم الذي يقبلها ، وإن لم يتصف بها .
الوجه الرابع : أن الكمال في الوجود ، والنقص في العدم ، فنفس
[ ص: 220 ] ثبوت هذه الصفات كمال ، ونفس نفيها نقص ، وإن لم يتصف بها لزم نقصه ، وأن يكون المفعول أكمل من الفاعل ، وأن يكون المحدث الممكن المخلوق أكمل من القديم الأزلي الواجب الوجود الخالق ، وهذا ممتنع في بداية العقول ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لبيان بعض الطرق التي بها تعرف صفات الرب ، وبيان أن هؤلاء القوم من أجهل أهل الملل بالرب .
والطرق التي يعرف بها كماله فيها العقلية والسمعية ، وأن القوم عندهم من ألفاظ الأنبياء ما لم يفهموا كثيرا منه وما حرفوا كثيرا منه ، وعندهم من المعقول في ذلك ما يفضلهم
اليهود فيه ، لكن
اليهود ، وإن كانوا أعلم منهم ، فهم أعظم عنادا وكبرا وجحدا للحق ،
والنصارى أجهل وأضل من
اليهود لكن هم أعبد وأزهد وأحسن أخلاقا ، ولهذا كانوا أقرب مودة للذين آمنوا من
اليهود والمشركين .
[ ص: 213 ] ثُمَّ قَالُوا : وَرَأَيْنَا الْحَيَّ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : حَيًّا نَاطِقًا ، وَحَيًّا غَيْرَ نَاطِقٍ فَوَصَفْنَاهُ بِأَفْضَلِ الْوَصْفَيْنِ ، فَقُلْنَا : إِنَّهُ نَاطِقٌ لِنَنْفِيَ الْجَهْلَ عَنْهُ .
فَيُقَالُ لَهُمْ : لَا رَيْبَ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ مُتَكَلِّمٌ مُخْتَارٌ ، لَكِنَّ قَوْلَهُمْ : فَقُلْنَا إِنَّهُ نَاطِقٌ لِنَنْفِيَ الْجَهْلَ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنَّكُمْ أَرَدْتُمُ النُّطْقَ الْمُنَاقِضَ لِلْجَهْلِ ، وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يُنَاقِضُ الْجَهْلَ لَمْ تُرِيدُوا بِذَلِكَ النُّطْقَ الَّذِي هُوَ الْعِبَارَةُ وَالْبَيَانُ ، وَلَمْ تُرِيدُوا بِذَلِكَ مَا جَعَلَهُ بَعْضُ النُّظَّارِ كَلَامًا ، وَهِيَ مَعَانِي قَائِمَةٌ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْعُلُومِ ، وَلَا مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ لَكُمْ : لَيْسَ فِي الْأَحْيَاءِ إِلَّا مَا هُوَ شَاعِرٌ ، فَكُلُّ حَيٍّ فَلَهُ شُعُورٌ بِحَسَبِهِ .
وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الْحَيَاةُ قَوِيَ شُعُورُهَا ، وَشُعُورُ الْحَيَوَانِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْعِلْمِ ، كَمَا يَقُولُ النَّاسُ : عِلْمُ الْفَهْدِ وَالْبَازِي وَالْكَلْبِ ، وَيُقَالُ : كَلْبٌ مُعَلَّمٌ وَغَيْرُ مُعَلَّمٍ وَبَازِي مُعَلَّمٌ .
[ ص: 214 ] وَقَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=4وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=68067إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَقَتَلَ فَكُلْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ صِفَةُ كَمَالٍ ، فَالْعَالِمُ أَكْمَلُ مِنَ الْجَاهِلِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28781وَالدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ ، مِثْلُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِإِرَادَتِهِ .
وَالْإِرَادَةُ تَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَ الْمُرَادِ فَلَابُدَّ أَنْ يَعْلَمَ الْمَخْلُوقَاتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا .
وَكُلُّ مَا وُجِدَ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ مَوْجُودٌ وُجُودًا مُعَيَّنًا يَمْتَازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ ، فَإِذَا خَلَقَهَا كَذَلِكَ فَلَابُدَّ أَنْ يَعْلَمَهَا عِلْمًا مُفَصَّلًا يَمْتَازُ بِهِ كُلُّ مَعْلُومٍ عَمَّا سِوَاهُ ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَلِمَهَا عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ مِنْهَا شَيْئًا ،
[ ص: 215 ] لِأَنَّ الْكُلِّيَّ إِنَّمَا يَكُونُ كُلِّيًّا فِي الْأَذْهَانِ ، وَأَمَّا مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ مُعَيَّنٌ مُخْتَصٌّ بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِكُلِّيٍّ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَفْلَاكِ مُعَيَّنٌ ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ إِلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ ، وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا وَبُيِّنَ فَسَادُ شُبَهِ نُفَاةِ ذَلِكَ بِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ لُزُومِ التَّغْيِيرِ أَوِ التَّكَثُّرِ ، وَبُيِّنَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ مَحْذُورٌ يَنْفِيهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ .
فَإِنَّ التَّكَثُّرَ فِيمَا يَقُومُ بِهِ مِنَ الْمَعَانِي هُوَ مَدْلُولُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ فَإِنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةَ ، وَلَا الْقُدْرَةُ هِيَ الْحَيَاةَ وَلَا الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَ ، وَمَنْ جَعَلَ كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى ، وَجَعَلَ الصِّفَاتِ هِيَ الْمَوْصُوفَ ، فَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ السَّفْسَطَةِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ خَالِقُ الْعَالَمِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، وَجَاعِلُهُمْ عُلَمَاءَ ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ غَيْرَهُ عَالِمًا مَنْ لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ بِعَالِمٍ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ صِفَةُ كَمَالٍ ، وَمَنْ يَعْلَمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ ، وَكُلُّ كَمَالٍ لِلْمَخْلُوقِ فَهُوَ مِنَ الْخَالِقِ ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنَ الْخَالِقِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الْمُمْكِنَاتِ الْمُحْدَثَةِ الْمَخْلُوقَةِ مَا هُوَ عَالِمٌ ، وَالْوَاجِبُ الْقَدِيمُ الْخَالِقُ أَكْمَلُ مِنَ الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْكَمَالِ الْمَوْجُودُ
[ ص: 216 ] النَّاقِصُ الْخَسِيسُ دُونَ الْمَوْجُودِ الْكَامِلِ الشَّرِيفِ ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَعْنَى حُجَّتِهِمْ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حَيٌّ ، وَالْحَيَاةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِجِنْسِ الْعِلْمِ ، وَإِذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ أَكْمَلَ مِنْ كُلِّ حَيَاةٍ فَعِلْمُهُ أَكْمَلُ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ ، لَكِنْ يُقَالُ لَكُمْ : كَمَا أَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ فَهُوَ أَيْضًا قَادِرٌ ، فَمَا ذَكَرْتُمْ بِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ أَوِ الْأَحْيَاءَ تَنْقَسِمُ إِلَى قَادِرٍ وَغَيْرِ قَادِرٍ ، فَيَجِبُ أَنْ يُوصَفَ بِأَجَلِّ الْقِسْمَيْنِ ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ .
لَا سِيَّمَا وَدَلَائِلُ كَوْنِهِ قَادِرًا أَظْهَرُ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ عَالِمًا ، فَإِنَّ نَفْسَ كَوْنِهِ خَالِقًا فَاعِلًا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ قَادِرًا ، فَإِنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الْقُدْرَةِ مُمْتَنِعٌ حَتَّى إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْجَمَادَ يَفْعَلُ فَإِنَّمَا يَفْعَلُ بِقُوَّةٍ فِيهِ كَالْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي فِي الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ ، فَيَمْتَنِعُ فِي خَالِقِ الْعَالَمِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ ، وَلَا قُدْرَةٌ ، قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=58إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ .
وَقَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=15أَوْ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً .
وَفِي صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ حَدِيثُ الِاسْتِخَارَةِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=651096اللَّهُمَّ إِنِّي أَسَتُخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [ ص: 217 ] وَكَثِيرٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَنِّفِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا قَبْلَ كَوْنِهِ عَالِمًا وَحَيًّا ، وَيَقُولُونَ : الْعِلْمُ بِذَلِكَ أَسْبَقُ فِي السُّلُوكِ الِاسْتِدْلَالِيِّ النَّظَرِيِّ لِدَلَالَةِ الْأَحْدَاثِ وَالْفِعْلِ عَلَى قُدْرَةِ الْمُحْدِثِ الْفَاعِلِ فَيَجِبُ أَنْ يُثْبِتُوا لَهُ صِفَةَ الْقُدْرَةِ مَعَ الْعِلْمِ .
وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : إِنَّ الْحَيَّ لَمَّا كَانَ يَنْقَسِمُ إِلَى سَمِيعٍ ، وَغَيْرِ سَمِيعٍ ، وَبَصِيرٍ ، وَغَيْرِ بَصِيرٍ ، وَصَفْنَاهُ بِأَشْرَفِ الْقِسْمَيْنِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ .
وَكَذَلِكَ فِي النُّطْقِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْبَيَانُ وَالْعِبَارَةُ ، وَلَمْ يُرَدْ بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ ، أَوْ مَعْنًى مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ فَإِنَّ الْحَيَّ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَكَلِّمٍ ، وَمُبَيِّنٍ مُعَبِّرٍ عَمَّا فِي نَفْسِهِ ، وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَيَجِبُ أَنْ تَصِفُوهُ بِأَشْرَفِ الْقِسْمَيْنِ ، وَهُوَ الْكَلَامُ الْمُبَيِّنُ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ عَمَّا فِي النَّفْسِ مِنَ الْمَعَانِي .
وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ثُبُوتِ جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=29626_34084لَوْ لَمْ يُوصَفْ بِكَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا لَوُصِفَ بِضِدِّ ذَلِكَ ، كَالْمَوْتِ وَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ وَالْخَرَسِ ، وَمَعْلُومٌ وُجُوبُ تَقَدُّسِهِ عَنْ هَذِهِ النَّقَائِصِ ، بَلْ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ ، فَإِنَّهُ أَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ ، وَأَجَلُّهَا وَأَعْظَمُهَا ، وَرَبُّ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَخَالِقُهُ وَمَالِكُهُ ، وَجَاعِلُ كُلِّ مَا سِوَاهُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ شَيْئًا عَاجِزًا جَاهِلًا أَصَمَّ أَبْكَمَ أَخْرَسَ ، بَلْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ .
[ ص: 218 ] وَلِبَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ هُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ : أَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْ يُوصَفَ بِأَضْدَادِهَا إِذَا كَانَ قَابِلًا لَهَا ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَهَا لَمْ يَلْزَمْ .
قَالُوا : هَذِهِ الصِّفَاتُ مُتَقَابِلَةٌ تُقَابِلُ الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ ، وَهُوَ عَدَمُ الشَّيْءِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لَهُ كَعَدَمِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ .
وَالْكَلَامُ عَنِ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ الْقَابِلُ لَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَهُ كَالْجَمَادِ ، فَلَا يُسَمَّى مَعَ عَدَمِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ مَيِّتًا وَلَا أَصَمَّ وَلَا أَعْمَى وَلَا أَخْرَسَ .
وَجَوَابُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ مِمَّنْ قَبِلَهَا ، وَلَمْ يَتَّصِفْ
[ ص: 219 ] بِهَا ، فَالْجَمَادُ أَنْقَصُ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَمْ يَتَّصِفْ بَعْدُ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَابِلًا لَهَا لَزِمَ إِذَا عَدِمَهَا أَنْ يَتَّصِفَ بِأَضْدَادِهَا .
وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ : فِي إِثْبَاتِهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْحَيَوَانِ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : وَفِي نَفْيِهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْجَمَادِ الَّذِي هُوَ أَنْقَصُ مِنَ الْحَيَوَانِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْجَمَادِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي إِثْبَاتِهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْحَيَوَانِ ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْحَيَوَانِ فَهُوَ مَحْذُورٌ ، فَالْمَحْذُورُ فِي تَشْبِيهِهِ بِالْجَمَادِ أَعْظَمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُ هَذَا التَّشْبِيهِ مَحْذُورًا فِي ذَلِكَ ، فَأَنْ لَا يَكُونَ مَحْذُورًا فِي هَذَا بِطْرِيقِ الْأَوْلَى .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ جَعْلَهُمْ سَلْبَ الْمَوْتِ وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ عَنِ الْجَمَادِ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لَهَا اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ ، فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَسْمِيَةُ الْجَمَادِ مَيِّتًا ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي الْأَصْنَامِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=21أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَكْفِي عَدَمُ هَذِهِ الصِّفَاتِ ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ صِفَةُ نَقْصٍ سَوَاءٌ قُدِّرَ الْمَوْصُوفُ قَابِلًا لَهَا أَوْ غَيْرَ قَابِلٍ ، بَلْ إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لَهَا كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي النَّقْصِ .
فَعُلِمَ أَنَّ نَفْيَ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَنْهُ ، وَنَفْيَ قَبُولِهَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْأَعْمَى الْأَصَمِّ الَّذِي يَقْبَلُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْكَمَالَ فِي الْوُجُودِ ، وَالنَّقْصَ فِي الْعَدَمِ ، فَنَفْسُ
[ ص: 220 ] ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَمَالٌ ، وَنَفْسُ نَفْيِهَا نَقْصٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَزِمَ نَقْصُهُ ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ أَكْمَلَ مِنَ الْفَاعِلِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُحْدَثُ الْمُمْكِنُ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنَ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْخَالِقِ ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَكِنْ نَبَّهْنَا عَلَيْهَا هُنَا لِبَيَانِ بَعْضِ الطُّرُقِ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ صِفَاتُ الرَّبِّ ، وَبَيَانِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مِنْ أَجْهَلِ أَهْلِ الْمِلَلِ بِالرَّبِّ .
وَالطُّرُقُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا كَمَالُهُ فِيهَا الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ ، وَأَنَّ الْقَوْمَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَمْ يَفْهَمُوا كَثِيرًا مِنْهُ وَمَا حَرَّفُوا كَثِيرًا مِنْهُ ، وَعِنْدَهُمْ مِنَ الْمَعْقُولِ فِي ذَلِكَ مَا يَفْضُلُهُمُ
الْيَهُودُ فِيهِ ، لَكِنَّ
الْيَهُودَ ، وَإِنْ كَانُوا أَعْلَمَ مِنْهُمْ ، فَهُمْ أَعْظَمُ عِنَادًا وَكِبْرًا وَجَحْدًا لِلْحَقِّ ،
وَالنَّصَارَى أَجْهَلُ وَأَضَلُّ مِنَ
الْيَهُودِ لَكِنْ هُمْ أَعْبَدُ وَأَزْهَدُ وَأَحْسَنُ أَخْلَاقًا ، وَلِهَذَا كَانُوا أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنَ
الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ .