، وبما أخذ الله عليه به الميثاق في ظهر أبيه تعرف العبد بما خلق له ، وبأول ما فرض الله - تعالى - عليه آدم ، وبما هو صائر إليه .
اعلم بأن الله جل وعلا لم يترك الخلق سدى وهملا بل خلق الخلق ليعبدوه
وبالإلهية يفردوه
( اعلم ) كلمة يؤتى بها للاهتمام وللحث على تدبر ما بعدها ، والخطاب بها في هذا الموضع لكل المكلفين . ( بأن الله جل ) شأنه ، وتنزه عن كل نقص ( وعلا ) بكل معاني العلو ( لم يترك الخلق سدى ) ولا ( هملا ) ، أي لا يأمرهم ولا ينهاهم في الدنيا ولا يبعثهم فيجازيهم في الآخرة ؛ لأنه - تعالى - في خلقهم إلا بالحق لا عبثا ولا باطلا ، بل لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد ، قال الله تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) ، ( آل عمران 190 - 191 ) . ( ربنا ما خلقت هذا ) أي الخلق ( باطلا ) لا بل الحق ، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل ، فقالوا ( سبحانك ) أي عن أن تخلق شيئا باطلا تباركت وتعاليت . وقال تعالى : ( خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) ، ( النحل : 3 - 4 ) ، يخبر - تعالى - عن خلقه العالم العلوي ، وهو السماوات بما حوت ، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت ، وأن ذلك مخلوق بالحق لا [ ص: 80 ] للعبث ، ثم نزه - تعالى - نفسه عن شرك من عبد معه غيره ، وهو المستقل بالخلق وحده ، لا شريك له ، فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له . ثم نبه - تعالى - على خلق جنس الإنسان من نطفة أي مهينة ضعيفة ، فلما استقل ودرج ، إذا هو يخاصم ربه - تعالى - ويكذبه ، ويحارب رسله ، وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا ، وهذا كقوله تعالى : ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) ، ( يس : 77 - 79 ) ، وقال تعالى : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) ، ( المؤمنون : 115 ) ، أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منا ، ولا حكمة لنا ؟ وقيل للعبث ، أي لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم ، لا ثواب لها ولا عقاب ، ( وأنكم إلينا لا ترجعون ) أي لا تعودون في الدار الآخرة ، لا ، ليس الأمر كذلك ، إنما خلقناكم للعبادة ، وإقامة أوامر الله - عز وجل - ثم نبعثكم ليوم لا ريب فيه ، فنجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وهذا يقوله - تعالى - لأهل النار توبيخا وتقريعا ، وتبكيتا بعدما رأوا الحقائق عين اليقين . ثم قال - تعالى - منزها نفسه عما حسبوه ( فتعالى الله الملك الحق ) أي تقدس أن يخلق شيئا عبثا ، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك ( لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) ، وقال تعالى : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) ، ( ص : 27 ) ، يخبر - تعالى - أنه ما خلق الخلق عبثا ، وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ، ثم يجمعهم ليوم الجمع ، فيثيب المطيع ، ويعذب الكافر ، وليس الأمر كما يظنه الذين كفروا الذين لا يرون بعثا ولا معادا ، وإنما يعتقدون هذه الدار فقط ، ( فويل للذين كفروا من النار ) أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم ، ثم بين - تعالى - أنه - عز وجل - من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين ، فقال تعالى : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) ، ( ص : 28 ) ، أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلا بد من دار أخرى ، يثاب فيها هذا المتقي ، ويعاقب فيها هذا الفاجر .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة ، والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء ، فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله [ ص: 81 ] وولده ونعيمه ، ويموت كذلك ، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده ، فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل ، الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا المظلوم من هذا الظالم ، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار ، فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة .
وقال تعالى : ( أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ) ، ( الروم : 8 ) ، يقول - تعالى - منبها على التفكر في مخلوقاته الدالة على وجوده وانفراده بخلقها ، وأنه لا إله غيره ، ولا رب سواه ، فقال تعالى : ( أولم يتفكروا في أنفسهم ) يعني به النظر والتدبر ، والتأمل لخلق الله - عز وجل - الأشياء من العالم العلوي والسفلي ، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة ، والأجناس المختلفة ، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلا بل بالحق ، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى ، وهو يوم القيامة ، ولهذا قال تعالى : ( وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ) ، ( الروم : 8 ) ، وقال تعالى : ( خلق الله السماوات والأرض بالحق ) ، ( العنكبوت : 44 ) ، أي للحق وإظهار الحق ، لا على وجه العبث واللعب ، ( إن في ذلك ) أي في خلقها ( لآية ) أي لدلالة ( للمؤمنين ) على أنه - تعالى - المتفرد بالقدر والخلق ، والتدبير والإلهية . وقال تعالى : ( خلق الله السماوات والأرض بالحق ) أي بالعدل ( ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) ، ( الجاثية : 22 ) . وقال تعالى : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) أي لا على وجه العبث واللعب ، ( وأجل مسمى ) أي وإلى مدة معينة مضروبة ، يعني يوم القيامة ، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السماوات ، وهو الإشارة إلى فنائهما . وقال تعالى : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) ، ( القيامة : 36 ) .
قال : يعني لا يبعث . وقال السدي مجاهد ، ، والشافعي : يعني لا يؤمر ولا ينهى . قال وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ابن كثير رحمه الله تعالى : والظاهر أن الآية تعم الحالين ، أي ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث ، بل هو مأمور منهي في الدنيا ، محشور إلى الله في الدار الآخرة .
[ ص: 82 ] ( بل خلق ) الله - تعالى - ( الخلق ليعبدوه ) - عز وجل - بما شرعه على ألسنة رسله ، وأنزل به كتبه ، ( و ) مع عبادتهم إياه لا يشركون بعبادته أحدا كائنا من كان ، بل ( بالإلهية يفردوه ) دون ما سواه ، فمن ، حبط جميع عمله ، وصار هباء منثورا ، حيث أشرك مع الله في عبادته من هو مثله مخلوق لعبادة الله عز وجل ، قال الله تعالى : ( عبد الله - تعالى - ألف سنة ثم أشرك به لحظة من اللحظات ومات على ذلك وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، ( الذاريات : 56 ) ، قال رضي الله عنه : أي إلا لآمرهم أن يعبدون وأدعوهم لعبادتي . يؤيده قوله عز وجل : ( علي بن أبي طالب وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) ، ( التوبة : 31 ) .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن رضي الله عنهما : إلا ليعبدون ، إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها . وهذا اختيار ابن عباس ، وقال ابن جرير ، ابن جريج ومجاهد : إلا ليعرفون ، وقال : أي إلا للعبادة طوعا أو كرها ، وقال الربيع بن أنس : من العبادة ما ينفع ، ومنها ما لا ينفع ، ( السدي ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) ، ( لقمان : 25 ) ، فهذا منهم عبادة ، ولا ينفعهم مع الشرك .
وقال الضحاك : المراد بذلك المؤمنون . ا هـ من تفسير ابن كثير . وقال الكلبي ، والضحاك ، وسفيان : هذا خاص لأهل طاعته من الفريقين ، يدل عليه قراءة : ( وما خلقت الجن والإنس - من المؤمنين - إلا ليعبدون ) ، ثم قال في آية أخرى : ( ابن عباس ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ) ، ( الأعراف : 179 ) ، وقال بعضهم : وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي . وهذا معنى قول قال : هم على ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة ، وقيل : معناه إلا ليخضعوا لي ويتذللوا ، ومعنى العبادة في اللغة التذلل والانقياد ، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ، ومتذلل لمشيئته ، ولا يملك أحد لنفسه خروجا عما [ ص: 83 ] خلق عليه قدر ذرة من نفع ولا ضر . وقيل : إلا ليعبدون ، إلا ليوحدون . فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ، بيانه قوله عز وجل : ( زيد بن أسلم فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) ( العنكبوت : 65 ) الآية . اهـ من تفسير البغوي رحمه الله تعالى . قلت : وهذه الأقوال في هذه الآية ، وإن كانت متقاربة والآية تسع جميعها ، أرجحها الأول ، وهو قول أمير المؤمنين رضي الله عنه : إلا لآمرهم وأدعوهم لعبادتي ، يؤيده قوله تعالى : ( علي بن أبي طالب وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) ، ( التوبة : 31 ) ، وقوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) ، ( البينة : 5 ) الآية ، وغيرها من الآيات . ويؤيد ذلك أن الله - تبارك وتعالى - إنما شاء العبادة من جميع عباده ، وأرادها منهم ، وقضاها عليهم في الشرع لا في الكون ، فمن أطاع أمره وأتى بما أراده وشاءه منه ، فله رضاه والجنة ، ومن خالف في ذلك ، فله سخطه والنار .
ولو شاء الله - تعالى - من جميعهم العبادة ، وأرادها في الكون ، لم يكن لهم بد من ذلك ، ولم يكن لأحد إلى معصية الله - تعالى - من سبيل ، ولا يخرج عن قضائه - تعالى - وقدره شيء من المخلوقات مثقال ذرة ، فإنه لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا مضاد لأمره ، ولا ناقض لما أبرمه ، ولا دافع لما قدره ، ولذلك قال المفسرون هذا المعنى في قوله تعالى : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ، ( الإسراء : 23 ) ، فقال ، ابن عباس وقتادة ، والحسن : وأمر ربك . وقال : وأوجب ربك . وقال الربيع بن أنس مجاهد : وأوصى ربك . وقرأ ، أبي بن كعب ، وابن مسعود ( ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ، ولو أنه - تبارك وتعالى - قضى في الكون أن لا يعبد إلا إياه ، لم يشرك به أحد من خلقه ، وإنما قضى ذلك شرعا ; ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . وهذه المشيئة منه للعبادة من عباده شرعا عامة لمؤمنهم وكافرهم ، وأما مشيئته للعبادة الكونية القدرية فخاصة للمؤمنين ، فلهذا [ ص: 84 ] اتفقت فيهم المشيئتان ، فوافقوا المشيئة الشرعية لما سبق لهم في المشيئة القدرية الكونية ، وأما الكافر فلم يوافق المشيئة الشرعية ، لما سبق عليه في المشيئة القدرية من الشقاوة . والضحاك بن مزاحم
فتبين بهذا أن المشيئة الكونية القدرية لا خروج لأحد منها ، ولا محيد له عنها ، سواء سبقت له بالشقاوة أو السعادة . وأما المشيئة الشرعية ، فمن كان سبق له في القدرية أنه يوافقها ، كان كذلك ، أو يخالفها كان كذلك .
وأما ، فقال معنى العبادة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله - تعالى - ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة . فالصلاة والزكاة ، والصيام والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان إلى الجار واليتيم ، والمسكين وابن السبيل ، والمملوك من الآدميين والبهائم ، والدعاء والذكر ، والقراءة وأمثال ذلك من العبادة - يعني الظاهرة - وكذلك حب الله ورسوله ، وخشيته والإنابة إليه ، وإخلاص الدين له ، والصبر لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضا بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف لعذابه ، وأمثال ذلك هي من العبادة لله - يعني الباطنة ، وجماع العبادة كمال الحب مع كمال الذل ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - زيادة بحثها في بابها من المتن .