ومن ذلك ما قصه الله - تعالى - عن فرعون - لعنه الله - في تكذيبه موسى - عليه السلام - في أن إلهه الله - عز وجل - العلي الأعلى ، خالق كل شيء وإلهه ، قال الله - تعالى - في سورة القصص : ( وقال فرعون ياأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين ) ، ( القصص : 38 ) ، وقال تعالى : في سورة المؤمن : ( وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب ) ، ( غافر : 36 - 37 ) ، ففرعون - لعنه الله تعالى - كذب موسى في أن رب السماوات والأرض ، ورب المشرق والمغرب وما بينهما ، هو الله الذي في السماء ، فوق جميع خلقه مباين لهم ، لا تخفى عليه منهم خافية ، فكل جهمي ناف لعلو الله - عز وجل - فهو فرعوني ، وعن فرعون أخذ دينه ، وكل سني يصف الله - تعالى - بما وصف به نفسه أنه استوى على عرشه ، بائن من خلقه ، فهو موسوي محمدي ، متبع لرسل الله وكتبه .
[ ص: 173 ] ومن ذلك ما قصه الله - تعالى - في قصة تكليمه موسى حين تجلى للجبل فاندك الجبل ، قال الله عز وجل : ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ) ، ( الأعراف : 143 ) الآية ، قال الترمذي في جامعه في تفسير سورة الأعراف : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، أخبرنا ، أخبرنا سليمان بن حرب ، عن حماد بن سلمة ثابت ، عن أنس - رضي الله عنه - فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) ، قال حماد : هكذا ، وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى ، قال : فساخ الجبل ، وخر موسى صعقا . هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية ( ، ورواه أيضا من طريق حماد بن سلمة ، عن معاذ بن معاذ العنبري حماد نحوه ، ومن طريق معاذ أيضا رواه أحمد ، حدثنا ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني رضي الله عنه ، أنس بن مالك فلما تجلى ربه للجبل ) قال : قال هكذا - يعني : أنه أخرج طرف الخنصر . قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : ( أحمد : أرانا معاذ ، فقال له : ما تريد إلى هذا يا حميد الطويل أبا محمد ؟ قال : فضرب صدره ضربة شديدة ، وقال : من أنت يا حميد ؟ وما أنت يا حميد ؟ يحدثني به ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول : ما تريد إليه ؟ . أنس بن مالك
ورواه في تفسير هذه الآية من طريق أبو جعفر بن جرير الطبري ، حدثنا هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة ثابت ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) قال : ووضع الإبهام قريبا من طرف خنصره . قال : فساخ الجبل ، قال قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( حميد لثابت : يقول هكذا ؟ فرفع ثابت يده ، فضرب صدر حميد ، وقال : يقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول أنس ، وأنا أكتمه ؟ ورواه الحاكم في [ ص: 174 ] مستدركه من طرق ، عن ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط حماد بن سلمة مسلم ، ولم يخرجاه .
ورواه الخلال من طريق ، عن هدبة بن خالد ، فذكره ، وقال : هذا إسناد صحيح ، لا علة فيه . ورواه حماد بن سلمة في كتاب التوحيد من طريق ابن خزيمة عبد الوارث بن عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا ، ومن طريق حماد بن سلمة ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، ومن طريق حماد بن سلمة ، قال : حدثنا الهيثم بن جميل . حماد بن سلمة
ومن طريق ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم حماد . ومن طريق ، عن حجاج - يعني ابن منهال . ومن طريق حماد بن سلمة ، عن سليمان بن حرب ، قال حماد بن سلمة - رحمه الله تعالى - على هذه الآية قبل سياق الحديث بهذه الطرق : أفليس العلم محيطا يا ذوي الألباب أن الله - عز وجل - لو كان في كل موضع ، ومع كل بشر وخلق كما زعمت المعطلة ، لكان متجليا لكل شيء ، وكذلك جميع ما في الأرض لو كان الله - تعالى - متجليا لجميع أرضه ، سهلها ووعرها ، وجبالها وبراريها ومفاوزها ، ومدنها وقراها ، وعماراتها وخرابها ، وجميع ما فيها من نبات وبناء ، لجعلها دكا كما جعل الله الجبل الذي تجلى له دكا ، قال الله تعالى : ( أبو بكر بن خزيمة فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) انتهى .
وبالجملة فجميع رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - وجميع كتبه المنزلة ، وجميع أهل السماوات ، ومؤمني أهل الأرض من الجن والإنس أتباع رسل الله ، وجميع الفطر السليمة ، والقلوب المستقيمة التي لم تجتلها الشياطين عن دينها ، جميعها شاهدة حالا ومقالا أن خالقها وفاطرها ومعبودها الذي تألهه ، وتفزع إليه وتدعوه رغبا ورهبا ، هو فوق كل شيء ، عال على جميع خلقه ، استوى على عرشه بائنا من مخلوقاته ، وهو يعلم أعمالهم ، ويسمع أقوالهم ، ويرى حركاتهم وسكناتهم ، وجميع تقلباتهم وأحوالهم ، لا يخفى عليه منهم خافية ، ولهذا ترى جميع المؤمنين عالمهم وعاميهم ، وحرهم ومملوكهم ، وذكرهم وأنثاهم ، وصغيرهم وكبيرهم ، كل منهم إذا دعا [ ص: 175 ] الله - تبارك وتعالى - في جلب خير ، أو كشف مكروه ، إنما يرفع يديه ويشخص ببصره إلى السماء إلى جهة العلو ، إلى من يعلم سره ونجواه ، متوجها إليه بقلبه وقالبه ، يعلم أن معبوده فوقه ، وأنه إنما يدعى من أعلى لا من أسفل ، كما يقول الجهمية - قبحهم الله تعالى ، وتنزه عما يقولون علوا كبيرا .