الفصل الثاني عشر : الحلم ، والعفو
وأما الحلم ، والاحتمال ، ، وبين هذه الألقاب فرق ، فإن الحلم حالة توقر ، وثبات عند الأسباب المحركات . والاحتمال : حبس النفس عند الآلام ، والمؤذيات . ومثلها الصبر ، ومعانيها متقاربة . والعفو مع القدرة ، والصبر على ما يكره
وأما العفو فهو ترك المؤاخذة . وهذا كله مما أدب الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال : خذ العفو وأمر بالعرف . [ الأعراف : 199 ] الآية .
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل - عليه السلام - عن تأويلها ، فقال له : حتى أسأل العالم .
ثم ذهب فأتاه ، فقال : يا محمد . إن الله يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك .
وقال له : واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور . [ لقمان : 17 ] الآية ، وقال - تعالى - : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ الأحقاف : 35 ] قال : وليعفوا وليصفحوا [ النور : 22 ] الآية .
وقال : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ الشورى : 43 ] .
ولا خفاء بما يؤثر من حلمه ، واحتماله ، وأن كل حليم قد عرفت منه زلة ، وحفظت عنه هفوة ، وهو - صلى الله عليه وسلم - . لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرا ، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما
[ ص: 177 ] حدثنا أبو بكر بن واقد القاضي ، وغيره ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا مالك ، عن ، عن ابن شهاب عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ، ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى ، فينتقم لله بها وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه .
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كسرت رباعيته ، وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقا شديدا ، وقالوا : لو دعوت عليهم ! فقال : . اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون إني لم أبعث لعانا ، ولكني بعثت داعيا ، ورحمة .
وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال في بعض كلامه : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد دعا نوح على قومه ، فقال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] . ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا ، فلقد وطئ ظهرك ، وأدمي وجهك ، وكسرت رباعيتك ، فأبيت أن تقول إلا خيرا ، فقلت : اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون .
قال القاضي أبو الفضل - وفقه الله - : انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ، ودرجات الإحسان وحسن الخلق ، وكرم النفس ، وغاية الصبر ، والحلم ؛ إذ لم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ، ثم أشفق عليهم ، ورحمهم ، ودعا ، وشفع لهم ، فقال : اغفر أو اهد ، ثم أظهر سبب الشفقة ، والرحمة بقوله : لقومي ، ثم اعتذر عنهم بجهلهم ، فقال : فإنهم لا يعلمون .
ولما قال له الرجل : اعدل ، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله لم يزده في جوابه أن يبين له ما جهله . ووعظ نفسه ، وذكرها بما قال له ، فقال : ! ونهى من أراد من أصحابه قتله . ولما [ ص: 178 ] ويحك ! فمن يعدل إن لم أعدل ! خبت ، وخسرت إن لم أعدل غورث بن الحارث ليفتك به ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتبذ تحت شجرة ، وحده قائلا ، والناس قائلون ، في غزاة ، فلم ينتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو قائم ، والسيف صلتا في يده ، فقال : من يمنعك مني ؟ فقال : الله فسقط السيف من يده ، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : تصدى له قال : كن خير آخذ ، فتركه ، وعفا عنه . فجاء إلى قومه فقال : جئتكم من عند خير الناس . من يمنعك مني ؟
ومن عظيم خبره في العفو بعد اعترافها على الصحيح من الرواية . عفوه عن اليهودية التي سمته في الشاة
وأنه لبيد بن الأعصم إذ سحره ، وقد أعلم به ، وأوحي إليه بشرح أمره ، ولا عتب عليه فضلا عن معاقبته . لم يؤاخذ
وكذلك لم يؤاخذ عبد الله بن أبي ، وأشباهه من المنافقين بعظيم ما نقل عنهم في جهته قولا ، وفعلا ، بل قال لمن أشار بقتل بعضهم : لئلا يتحدث أن محمدا يقتل أصحابه .
وعن أنس - رضي الله عنه - : محمد ، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك ، فإنك لا تحمل لي من مالك ، ومال أبيك . فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : المال مال الله ، وأنا عبده . ثم قال : ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي قال : لا . قال : لم ؟ قال : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة . فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أمر أن يحمل له على بعيره شعير ، وعلى الآخر تمر . كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعليه برد غليظ الحاشية ، فجبذه أعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه ، ثم قال : يا
قالت عائشة - رضي الله عنها - : . وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن [ ص: 179 ] يجاهد في سبيل الله . وجيء إليه برجل ، فقيل : هذا أراد أن يقتلك . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لن تراع ، لن تراع ، ولو أردت ذلك لم تسلط علي وما ضرب خادما قط ، ولا امرأة . ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله .
وجاءه زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه دينا عليه ، فجبذ ثوبه عن منكبه ، وأخذ بمجامع ثيابه ، وأغلظ له ، ثم قال : إنكم يا بني عبد المطلب ، مطل ، فانتهره عمر ، وشدد له في القول ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبتسم .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر ، تأمرني بحسن القضاء ، وتأمره بحسن التقاضي .
ثم قال : لقد بقي من أجله ثلاث ، وأمر عمر يقضيه ماله ، ويزيده عشرين صاعا لما روعه ، فكان سبب إسلامه .
ذلك أنه كان يقول : ما بقي من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في محمد إلا اثنتين لم أخبرهما : ، يسبق حلمه جهله . فاختبرته بهذا ، فوجدته كما وصف . ولا تزيده شدة الجهل إلا حلما
والحديث عن حلمه - صلى الله عليه وسلم - ، وصبره ، وعفوه عند القدرة أكثر من أن تأتي عليه ، وحسبك ما ذكرناه مما في الصحيح ، والمصنفات الثابتة إلى ما بلغ متواترا مبلغ اليقين من صبره على مقاساة قريش ، وأذى الجاهلية ، ومصابرة الشدائد الصعبة معهم إلى أن أظفره الله عليهم ، وحكمه فيهم ، وهم لا يشكون في استئصال شأفتهم ، وإبادة خضرائهم ، فما زاد على أن عفا ، وصفح ، وقال : ما تقولون إني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، فقال : أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم [ يوسف : 92 ] الآية ، اذهبوا فأنتم الطلقاء . وقال أنس : هبط ثمانون رجلا من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذوا ، فأعتقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله تعالى : وهو الذي كف أيديهم عنكم [ الفتح : 24 ] الآية . وقال لأبي سفيان ، وقد سيق إليه بعد أن جلب إليه الأحزاب ، وقتل عمه ، وأصحابه ، ومثل بهم ، فعفا عنه ، ولاطفه في القول : ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ فقال : بأبي أنت ، وأمي ! ما أحلمك ، وأوصلك ، وأكرمك ! .
- صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضا - .