فصل توبة العامة
ثم قال صاحب المنازل :
nindex.php?page=treesubj&link=19708فتوبة العامة الاستكثار من الطاعة ، وهو يدعو إلى جحود نعمة الستر والإمهال ، ورؤية الحق على الله ، والاستغناء - الذي هو عين الجبروت - والتوثب على الله .
" العامة " عندهم من عدا باب الجمع والفناء ، وإن كانوا أهل سلوك وإرادة وعلم ، هذا مرادهم بالعامة ، ويسمونهم " أهل الفرق " ويسميهم غلاتهم " المحجوبين " .
[ ص: 270 ] ومراده أن توبتهم مدخولة عند الخواص منقوصة ، فإن توبتهم من استكثارهم لما يأتون به من الحسنات والطاعات ، أي رؤيتهم كثرتها ، وذلك يتضمن ثلاث مفاسد عند الخاصة :
إحداها : أن حسناتهم التي يأتون بها سيئات بالنسبة إلى مقام الخاصة ، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فهم محتاجون إلى التوبة من هذه الحسنات ، فلغفلتهم - باستكثارها - عن عيوبها ورؤيتها وملاحظتها هم جاحدون نعمة الله في سترها عليهم وإمهالهم ، كستره على أهل الذنوب الظاهرة تحت ستره وإمهاله ، لكن أهل الذنوب مقرون بستره وإمهاله ، وهؤلاء جاحدون لذلك ، لأنهم قد توفرت هممهم على استكثارهم من الحسنات ، دون مطالعة عيب النفس والعمل ، والتفتيش على دسائسهما ، وأن الحامل لهم على استكثارها رؤيتها والإعجاب بها ، ولو تفرغوا لتفتيشها ، ومحاسبة النفس عليها ، والتمييز بين ما فيها من الحظ والحق ، لشغلهم ذلك عن استكثارها ، ولأجل هذا كان من عدم الحضور والمراقبة والجمعية في العمل ، خف عليه واستكثر منه ، فكثر في عينه ، وصار بمنزلة العادة ، فإذا أخذ نفسه بتخليصها من الشوائب ، وتنقيتها من الكدر ، وما في ذلك من شوك الرياء وشبرق الإعجاب ، وجمعية القلب والهم على الله بكليته وجد له ثقلا كالجبال ، وقل في عينه ، ولكن إذا وجد حلاوته سهل عليه حمل أثقاله ، والقيام بأعبائه ، والتلذذ والتنعم به مع ثقله .
وإذا أردت فهم هذا القدر كما ينبغي ، فانظر وقت أخذك في القراءة إذا أعرضت عن واجبها وتدبرها وتعقلها ، وفهم ما أريد بكل آية ، وحظك من الخطاب بها ، وتنزيلها على أدواء قلبك والتقيد بها ، كيف تدرك الختمة - أو أكثرها ، أو ما قرأت منها - بسهولة وخفة ، مستكثرا من القراءة ، فإذا ألزمت نفسك التدبر ومعرفة المراد ، والنظر إلى ما يخصك منه والتعبد به ، وتنزيل دوائه على أدواء قلبك ، والاستشفاء به ، لم تكد تجوز السورة أو الآية إلى غيرها ، وكذلك إذا جمعت قلبك كله على ركعتين ، أعطيتهما ما تقدر عليه من الحضور والخشوع والمراقبة ، لم تكد أن تصلي غيرهما إلا بجهد ، فإذا خلا القلب من ذلك عددت الركعات بلا حساب ، فالاستكثار من الطاعات دون مراعاة آفاتها وعيوبها ليتوب منها هي توبة العامة .
المفسدة الثانية : رؤية فاعلها أن له حقا على الله في مجازاته على تلك الحسنات بالجنات والنعيم والرضوان ، ولهذا كثرت في عينه مع غفلته عن أعماله ، ولو كانت أعمال الثقلين لا تستقل بدخول الجنة ولا النجاة من النار ، وأنه لن ينجو أحد البتة من النار بعمله ، إلا بعفو الله ورحمته .
[ ص: 271 ] الثالثة : استشعارهم الاستغناء عن مغفرة الله وعفوه ، بما يشهدون من استحقاق المغفرة ، والثواب بحسناتهم وطاعاتهم ، فإن ظنهم أن حصول النجاة والثواب بطاعاتهم ، واستكثارهم منها لذلك ، وكثرتها في عيونهم إظهار للاستغناء عن مغفرة الله وعفوه ، وذلك عين الجبروت والتوثب على الله .
ولا ريب أن مجرد القيام بأعمال الجوارح ، من غير حضور ولا مراقبة ، ولا إقبال على الله ، قد يتضمن تلك المفاسد الثلاث وغيرها ، مع أنه قليل المنفعة دنيا وأخرى ، كثير المؤنة ، فهو كالعمل على غير متابعة الأمر والإخلاص للمعبود ، فإنه - وإن كثر - متعب غير مفيد ، فهكذا العمل الخارجي القشوري بمنزلة النخالة الكثيرة المنظر القليلة الفائدة ، فإن الله لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها .
وهكذا ينبغي أن يكون سائر الأعمال التي يؤمر بالحضور فيها والخشوع ، كالطواف ، وأعمال المناسك ونحوها .
فإن انضاف إلى ذلك إحسان ظنه بها ، واستكثارها ، وعدم التفاته إلى عيوبها ونقائصها ، والتوبة إلى الله ، واستغفاره منها جاءت تلك المفاسد التي ذكرها وما هو أكثر منها .
وقد ظن بعض الشارحين لكلامه أن مراده الإزراء بالاستكثار من الطاعات ، وأن مجرد الفناء والشهود والاستغراق في حضرة المراقبة خير منها وأنفع وهذا باطل وكذب عليه وعلى الطريقة والحقيقة .
ولا ريب أن هذه طريقة المنحرفين من السالكين ، وهو تعبد بمراد العبد وحظه من الله ، وتقديم له على مراد الله ومحابه من العبد .
فإن للعبد حظا ، وعليه حقا ، فحق الله عليه تنفيذ أوامره والقيام بها ، والاستكثار من طاعاته بحسب الإمكان ، والاشتغال بمحاربة أعدائه ومجادلتهم ، ولو فرق ذلك جمعيته وشتت حضوره ، فهذا هو العبودية التي هي مراد الله .
وأما الجمعية والمراقبة والاستغراق في الفناء ، وتعطيل الحواس والجوارح عن إرسالها في الطاعات ، والاستكثار منها ، فهذا مجرد حظ العبد ومراده ، وهو - بلا شك - أنعم وألذ وأطيب من تفرقة الاستكثار من الطاعات ، لا سيما إذا شهدوا تفرقة المستكثرين منها ، وقلة نصيبهم من الجمعية ، فإنهم تشتد نفرتهم منهم ، ويعيبون عليهم ، ويزرون بهم ،
[ ص: 272 ] وقد يسمون من رأوه كثير الصلاة " ثقاقيل الحصر " ومن رأوه كثير الطواف " حمر المدار " ونحو ذلك .
وقد أخبرني من رأى ابن سبعين قاعدا في طرف المسجد الحرام ، وهو يسخر من الطائفين ويذمهم ، ويقول : كأنهم الحمر حول المدار ، ونحو هذا ، وكان يقول : إقبالهم على الجمعية أفضل لهم .
ولا ريب أن هؤلاء مؤثرون لحظوظهم على حقوق ربهم ، واقفون مع أذواقهم ومواجيدهم ، فانين بها عن حق الله ومراده .
وسمعت
شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يحكي عن بعض العارفين أنه قال : العامة يعبدون الله ، وهؤلاء يعبدون نفوسهم .
وصدق - رحمه الله - فإن هؤلاء المستكثرين من الطاعات الذائقين لروح العبادة ، الراجين ثوابها ، قد رفع لهم علم الثواب ، وأنه مسبب عن الأعمال ، فشمروا إليه ، راجين أن تقبل منهم أعمالهم - على عيبها ونقصها - بفضل الله ، خائفين أن ترد عليهم ، إذ لا تصلح لله ولا تليق به ، فيردها بعدله وحقه ، فهم مستكثرون بجهدهم من طاعاته بين خوفه ورجائه ، والإزراء على أنفسهم ، والحرص على استعمال جوارحهم في كل وجه من وجوه الطاعات ، رجاء مغفرته ورحمته ، وطمعا في النجاة ، فهم يقاتلون بكل سلاح لعلهم ينجون .
قالوا : وأما ما أنتم فيه من الفناء ، ومشاهدة الحقيقة والقيومية ، والاستغراق في ذلك فنحن في شغل عنه بتنفيذ أوامر صاحب الحقيقة والقيومية ، والاستكثار من
[ ص: 273 ] طاعاته ، وتصريف الجوارح في مرضاته ، كما أنكم - بفنائكم واستغراقكم في شهود الحقيقة وحضرة الربوبية - في شغل عما نحن فيه ، فكيف كنتم أولى بالله منا ، ونحن في حقوقه ومراده منا ، وأنتم في حظوظكم ومرادكم منه ؟
قالوا : وقد ضرب لنا ولكم مثل مطابق لمن تأمله بملك ادعى محبته مملوكان من مماليكه ، فاستحضرهما وسألهما عن ذلك ؟ فقالا : أنت أحب شيء إلينا ، ولا نؤثر عليك غيرك ، فقال : إن كنتما صادقين فاذهبا إلى سائر مماليكي وعرفاهم بحقوقي عليهم ، وأخبراهم بما يرضيني عنهم ، ويسخطني عليهم ، وابذلا قواكما في تخليصهم من مساخطي ، ونفذا فيهم أوامري ، واصبرا على أذاهم ، وعودا مريضهم ، وشيعا ميتهم ، وأعينا ضعيفهم بقواكما ، وأموالكما وجاهكما ، ثم اذهبا إلى بلاد أعدائي بهذه الملطفات وخالطوهم ، وادعوهم إلى موالاتي ، واشتغلا بهم ، ولا تخافوهم ، فعندهم من جندي وأوليائي من يكفيكما شرهم .
فأما أحد المملوكين فقام مبادرا إلى امتثال أمره ، وبعد عن حضرته في طلب مرضاته .
وأما الآخر ، فقال له : لقد غلب على قلبي من محبتك ، والاستغراق في مشاهدة حضرتك وجمالك ما لا أقدر معه على مفارقة حضرتك ومشاهدتك .
فقال له : إن رضائي في أن تذهب مع صاحبك ، فتفعل كما فعل ، وإن بعدت عن مشاهدتي .
فقال : لا أوثر على مشاهدتك والاستغراق فيك شيئا .
فأي المملوكين أحب إلى هذا الملك ، وأحظى عنده ، وأخص به ، وأقرب إليه ؟ أهذا الذي آثر حظه ومراده وما فيه لذته على مراد الملك وأمره ورضاه ؟ أم ذلك الذي ذهب في تنفيذ أوامره ، وفرغ لها قواه وجوارحه ، وتفرق فيها في كل وجه ؟ فما أولاه أن يجمعه أستاذه عليه بعد قضاء أوامره وفراغه منها ، ويجعله من خاصته وأهل قربه ! وما أولى صاحبه بأن يبعده عن قربه ، ويحجبه عن مشاهدته ، ويفرقه عن جمعيته عليه ، ويبدله بالتفرقة التي هرب منها - في تفرقة أمره - تفرقة في هواه ومراده بطبعه وبنفسه .
فليتأمل اللبيب هذا حق التأمل ، وليفتح عين بصيرته ، ويسير بقلبه ، فينظر في مقامات العبيد وأحوالهم وهممهم ، ومن هو أولى بالعبودية ، ومن هو البعيد منها .
ولا ريب أن من أظهر الاستغناء عن الله وطاعاته ، وتوثب عليه ، وأورثته الطاعات
[ ص: 274 ] جبروتا وحجبا عن رؤيته عيوب نفسه وعمله ، وكثرت حسناته في عينه ، فهو أبغض الخلق إلى الله تعالى ، وأبعدهم عن العبودية ، وأقربهم إلى الهلاك ، لا من استكثر من الباقيات الصالحات ، ومن مثل ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم من سأله مرافقته في الجنة ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980196أعني على نفسك بكثرة السجود ومن قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=17كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون قال
الحسن : مدوا الصلاة إلى السحر ، ثم جلسوا يستغفرون ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980197تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد وقال لمن سأله أن يوصيه بشيء يتشبث به :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980198لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله .
والدين كله استكثار من الطاعات ، وأحب خلق الله إليه أعظمهم استكثارا منها .
وفي الحديث الصحيح الإلهي
nindex.php?page=hadith&LINKID=980199ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه .
فهذا جزاؤه وكرامته للمستكثرين من طاعته ، لا لأهل الفناء المستغرقين في شهود الربوبية .
وقال صلى الله عليه وسلم لآخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980200عليك بكثرة السجود ، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها [ ص: 275 ] درجة ، وحط عنك بها خطيئة .
فَصْلٌ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ :
nindex.php?page=treesubj&link=19708فَتَوْبَةُ الْعَامَّةِ الِاسْتِكْثَارُ مِنَ الطَّاعَةِ ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى جُحُودِ نِعْمَةِ السَّتْرِ وَالْإِمْهَالِ ، وَرُؤْيَةِ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ ، وَالِاسْتِغْنَاءِ - الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْجَبَرُوتِ - وَالتَّوَثُّبِ عَلَى اللَّهِ .
" الْعَامَّةُ " عِنْدَهُمْ مَنْ عَدَا بَابَ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ سُلُوكٍ وَإِرَادَةٍ وَعِلْمٍ ، هَذَا مُرَادُهُمْ بِالْعَامَّةِ ، وَيُسَمُّونَهُمْ " أَهْلَ الْفَرْقِ " وَيُسَمِّيهِمْ غُلَاتُهُمُ " الْمَحْجُوبِينَ " .
[ ص: 270 ] وَمُرَادُهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ مَدْخُولَةٌ عِنْدَ الْخَوَاصِّ مَنْقُوصَةٌ ، فَإِنَّ تَوْبَتَهُمْ مِنِ اسْتِكْثَارِهِمْ لِمَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ ، أَيْ رُؤْيَتِهِمْ كَثْرَتَهَا ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَ مَفَاسِدَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ :
إِحْدَاهَا : أَنَّ حَسَنَاتِهِمُ الَّتِي يَأْتُونَ بِهَا سَيِّئَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِ الْخَاصَّةِ ، فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ ، فَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ ، فَلِغَفْلَتِهِمْ - بِاسْتِكْثَارِهَا - عَنْ عُيُوبِهَا وَرُؤْيَتِهَا وَمُلَاحَظَتِهَا هُمْ جَاحِدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي سَتْرِهَا عَلَيْهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ ، كَسَتْرِهِ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ تَحْتَ سَتْرِهِ وَإِمْهَالِهِ ، لَكِنَّ أَهْلَ الذُّنُوبِ مُقِرُّونَ بِسَتْرِهِ وَإِمْهَالِهِ ، وَهَؤُلَاءِ جَاحِدُونَ لِذَلِكَ ، لِأَنَّهُمْ قَدْ تَوَفَّرَتْ هِمَمُهُمْ عَلَى اسْتِكْثَارِهِمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ ، دُونَ مُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ ، وَالتَّفْتِيشِ عَلَى دَسَائِسِهِمَا ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى اسْتِكْثَارِهَا رُؤْيَتُهَا وَالْإِعْجَابُ بِهَا ، وَلَوْ تَفَرَّغُوا لِتَفْتِيشِهَا ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ عَلَيْهَا ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَظِّ وَالْحَقِّ ، لَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنِ اسْتِكْثَارِهَا ، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ مِنْ عَدِمَ الْحُضُورَ وَالْمُرَاقَبَةَ وَالْجَمْعِيَّةَ فِي الْعَمَلِ ، خَفَّ عَلَيْهِ وَاسْتَكْثَرَ مِنْهُ ، فَكَثُرَ فِي عَيْنِهِ ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَادَةِ ، فَإِذَا أَخَذَ نَفْسَهُ بِتَخْلِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ ، وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الْكَدَرِ ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَوْكِ الرِّيَاءِ وَشِبْرِقِ الْإِعْجَابِ ، وَجَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ وَالْهَمِّ عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ وَجَدَ لَهُ ثِقَلًا كَالْجِبَالِ ، وَقَلَّ فِي عَيْنِهِ ، وَلَكِنْ إِذَا وَجَدَ حَلَاوَتَهُ سَهُلَ عَلَيْهِ حَمْلُ أَثْقَالِهِ ، وَالْقِيَامُ بِأَعْبَائِهِ ، وَالتَّلَذُّذُ وَالتَّنَعُّمُ بِهِ مَعَ ثِقَلِهِ .
وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا الْقَدْرِ كَمَا يَنْبَغِي ، فَانْظُرْ وَقْتَ أَخْذِكَ فِي الْقِرَاءَةِ إِذَا أَعْرَضْتَ عَنْ وَاجِبِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَعَقُّلِهَا ، وَفَهْمِ مَا أُرِيدَ بِكُلِّ آيَةٍ ، وَحَظِّكَ مِنَ الْخِطَابِ بِهَا ، وَتَنْزِيلِهَا عَلَى أَدْوَاءِ قَلْبِكَ وَالتَّقَيُّدِ بِهَا ، كَيْفَ تُدْرِكُ الْخَتْمَةَ - أَوْ أَكْثَرَهَا ، أَوْ مَا قَرَأْتَ مِنْهَا - بِسُهُولَةٍ وَخِفَّةٍ ، مُسْتَكْثِرًا مِنَ الْقِرَاءَةِ ، فَإِذَا أَلْزَمْتَ نَفْسَكَ التَّدَبُّرَ وَمَعْرِفَةَ الْمُرَادِ ، وَالنَّظَرَ إِلَى مَا يَخُصُّكَ مِنْهُ وَالتَّعَبُّدَ بِهِ ، وَتَنْزِيلَ دَوَائِهِ عَلَى أَدْوَاءِ قَلْبِكَ ، وَالِاسْتِشْفَاءَ بِهِ ، لَمْ تَكَدْ تَجُوزُ السُّورَةَ أَوِ الْآيَةَ إِلَى غَيْرِهَا ، وَكَذَلِكَ إِذَا جَمَعْتَ قَلْبَكَ كُلَّهُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ ، أَعْطَيْتَهُمَا مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ وَالْمُرَاقَبَةِ ، لَمْ تَكَدْ أَنْ تُصَلِّيَ غَيْرَهُمَا إِلَّا بِجَهْدٍ ، فَإِذَا خَلَا الْقَلْبُ مِنْ ذَلِكَ عَدَّدْتَ الرَّكَعَاتِ بِلَا حِسَابٍ ، فَالِاسْتِكْثَارُ مِنَ الطَّاعَاتِ دُونَ مُرَاعَاةِ آفَاتِهَا وَعُيُوبِهَا لِيَتُوبَ مِنْهَا هِيَ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ .
الْمَفْسَدَةُ الثَّانِيَةُ : رُؤْيَةُ فَاعِلِهَا أَنَّ لَهُ حَقًّا عَلَى اللَّهِ فِي مُجَازَاتِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَسَنَاتِ بِالْجَنَّاتِ وَالنَّعِيمِ وَالرِّضْوَانِ ، وَلِهَذَا كَثُرَتْ فِي عَيْنِهِ مَعَ غَفْلَتِهِ عَنْ أَعْمَالِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالَ الثَّقَلَيْنِ لَا تَسْتَقِلُّ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَا النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ ، وَأَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ الْبَتَّةَ مِنَ النَّارِ بِعَمَلِهِ ، إِلَّا بِعَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ .
[ ص: 271 ] الثَّالِثَةُ : اسْتِشْعَارُهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ ، بِمَا يَشْهَدُونَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمَغْفِرَةِ ، وَالثَّوَابِ بِحَسَنَاتِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ ، فَإِنَّ ظَنَّهُمْ أَنَّ حُصُولَ النَّجَاةِ وَالثَّوَابِ بِطَاعَاتِهِمْ ، وَاسْتِكْثَارِهِمْ مِنْهَا لِذَلِكَ ، وَكَثْرَتُهَا فِي عُيُونِهِمْ إِظْهَارٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْجَبَرُوتِ وَالتَّوَثُّبِ عَلَى اللَّهِ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقِيَامِ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ ، مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ وَلَا مُرَاقَبَةٍ ، وَلَا إِقْبَالٍ عَلَى اللَّهِ ، قَدْ يَتَضَمَّنُ تِلْكَ الْمَفَاسِدَ الثَّلَاثَ وَغَيْرَهَا ، مَعَ أَنَّهُ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ دُنْيَا وَأُخْرَى ، كَثِيرُ الْمُؤْنَةِ ، فَهُوَ كَالْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ مُتَابِعَةِ الْأَمْرِ وَالْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ ، فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَثُرَ - مُتْعِبٌ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَهَكَذَا الْعَمَلُ الْخَارِجِيُّ الْقُشُورِيُّ بِمَنْزِلَةِ النُّخَالَةِ الْكَثِيرَةِ الْمَنْظَرِ الْقَلِيلَةِ الْفَائِدَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ مِنْ صِلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا .
وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِالْحُضُورِ فِيهَا وَالْخُشُوعِ ، كَالطَّوَافِ ، وَأَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ وَنَحْوِهَا .
فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ إِحْسَانُ ظَنِّهِ بِهَا ، وَاسْتِكْثَارُهَا ، وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِ إِلَى عُيُوبِهَا وَنَقَائِصِهَا ، وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ ، وَاسْتِغْفَارِهِ مِنْهَا جَاءَتْ تِلْكَ الْمَفَاسِدُ الَّتِي ذَكَرَهَا وَمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا .
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الشَّارِحِينَ لِكَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ الْإِزْرَاءَ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الْفَنَاءِ وَالشُّهُودِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي حَضْرَةِ الْمُرَاقَبَةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَنْفَعُ وَهَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ السَّالِكِينَ ، وَهُوَ تَعَبُّدٌ بِمُرَادِ الْعَبْدِ وَحَظِّهِ مِنَ اللَّهِ ، وَتَقْدِيمٌ لَهُ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَمَحَابِّهِ مِنَ الْعَبْدِ .
فَإِنَّ لِلْعَبْدِ حَظًّا ، وَعَلَيْهِ حَقًّا ، فَحَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ وَالْقِيَامُ بِهَا ، وَالِاسْتِكْثَارُ مِنْ طَاعَاتِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَالِاشْتِغَالُ بِمُحَارَبَةِ أَعْدَائِهِ وَمُجَادَلَتِهِمْ ، وَلَوْ فَرَّقَ ذَلِكَ جَمْعِيَّتَهُ وَشَتَّتَ حُضُورَهُ ، فَهَذَا هُوَ الْعُبُودِيَّةُ الَّتِي هِيَ مُرَادُ اللَّهِ .
وَأَمَّا الْجَمْعِيَّةُ وَالْمُرَاقَبَةُ وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي الْفَنَاءِ ، وَتَعْطِيلُ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ عَنْ إِرْسَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا ، فَهَذَا مُجَرَّدُ حَظِّ الْعَبْدِ وَمُرَادُهُ ، وَهُوَ - بِلَا شَكٍّ - أَنْعَمُ وَأَلَذُّ وَأَطْيَبُ مِنْ تَفْرِقَةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ ، لَا سِيَّمَا إِذَا شَهِدُوا تَفْرِقَةَ الْمُسْتَكْثِرِينَ مِنْهَا ، وَقِلَّةَ نَصِيبِهِمْ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ ، فَإِنَّهُمْ تَشْتَدُّ نَفْرَتُهُمْ مِنْهُمْ ، وَيَعِيبُونَ عَلَيْهِمْ ، وَيُزْرُونَ بِهِمْ ،
[ ص: 272 ] وَقَدْ يُسَمُّونَ مَنْ رَأَوْهُ كَثِيرَ الصَّلَاةِ " ثَقَاقِيلَ الْحُصُرِ " وَمَنْ رَأَوْهُ كَثِيرَ الطَّوَافِ " حُمُرَ الْمَدَارِ " وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى ابْنَ سَبْعِينَ قَاعِدًا فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَهُوَ يَسْخَرُ مِنَ الطَّائِفِينَ وَيَذُمُّهُمْ ، وَيَقُولُ : كَأَنَّهُمُ الْحُمُرُ حَوْلَ الْمَدَارِ ، وَنَحْوَ هَذَا ، وَكَانَ يَقُولُ : إِقْبَالُهُمْ عَلَى الْجَمْعِيَّةِ أَفْضَلُ لَهُمْ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُؤْثِرُونَ لِحُظُوظِهِمْ عَلَى حُقُوقِ رَبِّهِمْ ، وَاقِفُونَ مَعَ أَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ ، فَانِينَ بِهَا عَنْ حَقِّ اللَّهِ وَمُرَادِهِ .
وَسَمِعْتُ
شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ قَالَ : الْعَامَّةُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ ، وَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ نُفُوسَهُمْ .
وَصَدَقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْثِرِينَ مِنَ الطَّاعَاتِ الذَّائِقِينَ لِرُوحِ الْعِبَادَةِ ، الرَّاجِينَ ثَوَابَهَا ، قَدْ رُفِعَ لَهُمْ عِلْمُ الثَّوَابِ ، وَأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنِ الْأَعْمَالِ ، فَشَمَّرُوا إِلَيْهِ ، رَاجِينَ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ أَعْمَالُهُمْ - عَلَى عَيْبِهَا وَنَقْصِهَا - بِفَضْلِ اللَّهِ ، خَائِفِينَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ ، إِذْ لَا تَصْلُحُ لِلَّهِ وَلَا تَلِيقُ بِهِ ، فَيَرُدَّهَا بِعَدْلِهِ وَحَقِّهِ ، فَهُمْ مُسْتَكْثِرُونَ بِجُهْدِهِمْ مِنْ طَاعَاتِهِ بَيْنَ خَوْفِهِ وَرَجَائِهِ ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَالْحِرْصِ عَلَى اسْتِعْمَالِ جَوَارِحِهِمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ ، رَجَاءَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَطَمَعًا فِي النَّجَاةِ ، فَهُمْ يُقَاتِلُونَ بِكُلِّ سِلَاحٍ لَعَلَّهُمْ يَنْجَوْنَ .
قَالُوا : وَأَمَّا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْفَنَاءِ ، وَمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي ذَلِكَ فَنَحْنُ فِي شُغْلٍ عَنْهُ بِتَنْفِيذِ أَوَامِرِ صَاحِبِ الْحَقِيقَةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ
[ ص: 273 ] طَاعَاتِهِ ، وَتَصْرِيفِ الْجَوَارِحِ فِي مَرْضَاتِهِ ، كَمَا أَنَّكُمْ - بِفَنَائِكُمْ وَاسْتِغْرَاقِكُمْ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ وَحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ - فِي شُغْلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ ، فَكَيْفَ كُنْتُمْ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنَّا ، وَنَحْنُ فِي حُقُوقِهِ وَمُرَادِهِ مِنَّا ، وَأَنْتُمْ فِي حُظُوظِكُمْ وَمُرَادِكُمْ مِنْهُ ؟
قَالُوا : وَقَدْ ضُرِبَ لَنَا وَلَكُمْ مَثَلٌ مُطَابِقٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ بِمَلِكٍ ادَّعَى مَحَبَّتَهُ مَمْلُوكَانِ مِنْ مَمَالِيكِهِ ، فَاسْتَحْضَرَهُمَا وَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَا : أَنْتَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْنَا ، وَلَا نُؤْثِرُ عَلَيْكَ غَيْرَكَ ، فَقَالَ : إِنْ كُنْتُمَا صَادِقَيْنِ فَاذْهَبَا إِلَى سَائِرِ مَمَالِيكِي وَعَرِّفَاهُمْ بِحُقُوقِي عَلَيْهِمْ ، وَأَخْبِرَاهُمْ بِمَا يُرْضِينِي عَنْهُمْ ، وَيُسْخِطُنِي عَلَيْهِمْ ، وَابْذُلَا قُوَاكُمَا فِي تَخْلِيصِهِمْ مِنْ مَسَاخِطِي ، وَنَفِّذَا فِيهِمْ أَوَامِرِي ، وَاصْبِرَا عَلَى أَذَاهُمْ ، وَعُودَا مَرِيضَهُمْ ، وَشَيِّعَا مَيِّتَهُمْ ، وَأَعِينَا ضَعِيفَهُمْ بِقُوَاكُمَا ، وَأَمْوَالِكُمَا وَجَاهِكُمَا ، ثُمَّ اذْهَبَا إِلَى بِلَادِ أَعْدَائِي بِهَذِهِ الْمُلَطِّفَاتِ وَخَالِطُوهُمْ ، وَادْعُوهُمْ إِلَى مُوَالَاتِي ، وَاشْتَغِلَا بِهِمْ ، وَلَا تَخَافُوهُمْ ، فَعِنْدَهُمْ مِنْ جُنْدِي وَأَوْلِيَائِي مَنْ يَكْفِيكُمَا شَرَّهُمْ .
فَأَمَّا أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ فَقَامَ مُبَادِرًا إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ ، وَبَعُدَ عَنْ حَضْرَتِهِ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ .
وَأَمَّا الْآخَرُ ، فَقَالَ لَهُ : لَقَدْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِي مِنْ مَحَبَّتِكَ ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي مُشَاهَدَةِ حَضْرَتِكَ وَجِمَالِكَ مَا لَا أَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ حَضْرَتِكَ وَمُشَاهَدَتِكَ .
فَقَالَ لَهُ : إِنَّ رِضَائِي فِي أَنْ تَذْهَبَ مَعَ صَاحِبِكَ ، فَتَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ ، وَإِنْ بَعُدْتَ عَنْ مُشَاهَدَتِي .
فَقَالَ : لَا أُوثِرُ عَلَى مُشَاهَدَتِكَ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيكَ شَيْئًا .
فَأَيُّ الْمَمْلُوكَيْنِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا الْمَلِكِ ، وَأَحْظَى عِنْدَهُ ، وَأَخَصُّ بِهِ ، وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ ؟ أَهَذَا الَّذِي آثَرَ حَظَّهُ وَمُرَادَهُ وَمَا فِيهِ لَذَّتُهُ عَلَى مُرَادِ الْمَلِكِ وَأَمْرِهِ وَرِضَاهُ ؟ أَمْ ذَلِكَ الَّذِي ذَهَبَ فِي تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ ، وَفَرَّغَ لَهَا قُوَاهُ وَجَوَارِحَهُ ، وَتَفَرَّقَ فِيهَا فِي كُلِّ وَجْهٍ ؟ فَمَا أَوْلَاهُ أَنْ يَجْمَعَهُ أُسْتَاذَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَاءِ أَوَامِرِهِ وَفَرَاغِهِ مِنْهَا ، وَيَجْعَلَهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَهْلِ قُرْبِهِ ! وَمَا أَوْلَى صَاحِبَهُ بِأَنْ يُبْعِدَهُ عَنْ قُرْبِهِ ، وَيَحْجُبَهُ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ ، وَيُفَرِّقَهُ عَنْ جَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ ، وَيُبَدِّلَهُ بِالتَّفْرِقَةِ الَّتِي هَرَبَ مِنْهَا - فِي تَفْرِقَةِ أَمْرِهِ - تَفْرِقَةً فِي هَوَاهُ وَمُرَادِهِ بِطَبْعِهِ وَبِنَفْسِهِ .
فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ هَذَا حَقَّ التَّأَمُّلِ ، وَلْيَفْتَحْ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ ، وَيَسِيرُ بِقَلْبِهِ ، فَيَنْظُرَ فِي مَقَامَاتِ الْعَبِيدِ وَأَحْوَالِهِمْ وَهِمَمِهِمْ ، وَمَنْ هُوَ أَوْلَى بِالْعُبُودِيَّةِ ، وَمَنْ هُوَ الْبَعِيدُ مِنْهَا .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ اللَّهِ وَطَاعَاتِهِ ، وَتَوَثَّبَ عَلَيْهِ ، وَأَوْرَثَتْهُ الطَّاعَاتُ
[ ص: 274 ] جَبَرُوتًا وَحَجْبًا عَنْ رُؤْيَتِهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَعَمَلِهِ ، وَكَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ فِي عَيْنِهِ ، فَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى الْهَلَاكِ ، لَا مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ، وَمِنْ مِثْلِ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980196أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=17كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قَالَ
الْحَسَنُ : مَدُّوا الصَّلَاةَ إِلَى السَّحَرِ ، ثُمَّ جَلَسُوا يَسْتَغْفِرُونَ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980197تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ أَنْ يُوصِيَهُ بِشَيْءٍ يَتَشَبَّثُ بِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980198لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ .
وَالدِّينُ كُلُّهُ اسْتِكْثَارٌ مِنَ الطَّاعَاتِ ، وَأَحَبُّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ أَعْظَمُهُمُ اسْتِكْثَارًا مِنْهَا .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980199مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبَصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، فَبِي يَسْمَعُ ، وَبِي يُبْصِرُ ، وَبِي يَبْطِشُ ، وَبِي يَمْشِي ، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسَتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ .
فَهَذَا جَزَاؤُهُ وَكَرَامَتُهُ لِلْمُسْتَكْثِرِينَ مِنْ طَاعَتِهِ ، لَا لِأَهْلِ الْفَنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِينَ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخَرَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980200عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا [ ص: 275 ] دَرَجَةً ، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً .