ففي هذا قولان للناس :
فقالت طائفة : لا تصح توبته ، لأن ، فالتوبة من الممكن ، لا من المستحيل ، ولهذا لا تتصور التوبة من نقل الجبال عن أماكنها ، وتنشيف البحار ، والطيران إلى السماء ، ونحوه . التوبة إنما تكون ممن يمكنه الفعل والترك
قالوا : ولأن التوبة مخالفة داعي النفس ، وإجابة داعي الحق ، ولا داعي للنفس هنا ، إذ يعلم استحالة الفعل منها .
قالوا : ولأن هذا كالمكره على الترك ، المحمول عليه قهرا ، ومثل هذا لا تصح توبته .
قالوا : ومن المستقر في فطر الناس وعقولهم أن توبة غير معتبرة ، ولا يحمدون عليها ، بل يسمونها توبة إفلاس ، وتوبة جائحة ، قال الشاعر : توبة المفاليس وأصحاب الجوائح
ورحت عن توبة سائلا وجدتها توبة إفلاس
قالوا : ويدل على هذا أيضا أن النصوص المتضافرة المتظاهرة قد دلت على أن لا تنفع ، لأنها توبة ضرورة لا اختيار ، قال تعالى التوبة عند المعاينة إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما والجهالة هاهنا جهالة العمل ، وإن كان عالما بالتحريم ، ، قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة ، عمدا كان أو لم يكن ، وكل من عصى الله فهو جاهل .وأما فجمهور المفسرين على أنها التوبة قبل المعاينة ، قال [ ص: 295 ] التوبة من قريب عكرمة : قبل الموت ، وقال الضحاك : قبل معاينة ملك الموت ، وقال ، السدي والكلبي : أن يتوب في صحته قبل مرض موته ، وفي المسند وغيره عن رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ابن عمر وفي نسخة دراج إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا . إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب عز وجل : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني
فهذا شأن التائب من قريب ، وأما إذا وقع في السياق فقال : إني تبت الآن ، لم تقبل توبته ، وذلك لأنها توبة اضطرار لا اختيار ، فهي كالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها ، ويوم القيامة ، وعند معاينة بأس الله .
قالوا : ولأن حقيقة التوبة هي كف النفس عن الفعل الذي هو متعلق النهي ، والكف إنما يكون عن أمر مقدور ، وأما المحال فلا يعقل كف النفس عنه ، ولأن التوبة هي الإقلاع عن الذنب ، وهذا لا يتصور منه الإيقاع حتى يتأتى منه الإقلاع .
قالوا : ولأن الذنب عزم جازم على فعل المحرم ، يقترن به فعله المقدور ، ، يقترن به الترك ، والعزم على غير المقدور محال ، والترك [ ص: 296 ] في حق هذا ضروري ، لا عزم غير مقدور ، بل هو بمنزلة ترك الطيران إلى السماء ، ونقل الجبال وغير ذلك . والتوبة منه عزم جازم على ترك المقدور
والقول الثاني - وهو الصواب - أن توبته صحيحة ممكنة ، بل واقعة ، فإن أركان التوبة مجتمعة فيه ، والمقدور له منها الندم ، وفي المسند مرفوعا فإذا تحقق ندمه على الذنب ولومه نفسه عليه ، فهذه توبة ، وكيف يصح أن تسلب التوبة عنه ، مع شدة ندمه على الذنب ، ولومه نفسه عليه ؟ ولا سيما ما يتبع ذلك من بكائه وحزنه وخوفه ، وعزمه الجازم ، ونيته أنه لو كان صحيحا والفعل مقدورا له لما فعله . الندم توبة ،
وإذا كان الشارع قد نزل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها ، إذا صحت نيته ، كقوله : في الحديث الصحيح وفي الصحيح أيضا عنه : إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ، قالوا : وهم بالمدينة ؟ قال : وهم بالمدينة ، حبسهم العذر وله نظائر في الحديث ، فتنزيل العاجز عن المعصية ، التارك لها قهرا - مع نيته تركها اختيارا لو أمكنه - منزلة التارك المختار أولى . إن
يوضحه أن مفسدة الذنب التي يترتب عليها الوعيد تنشأ من العزم عليه تارة ومن فعله تارة ، ومنشأ المفسدة معدوم في حق هذا العاجز فعلا وعزما ، والعقوبة تابعة للمفسدة .
وأيضا فإن هذا تعذر منه الفعل ما تعذر منه التمني والوداد ، فإذا كان يتمنى ويود لو واقع الذنب ، ومن نيته أنه لو كان سليما لباشره ، فتوبته بالإقلاع عن هذا الوداد والتمني ، والحزن على فوته ، فإن الإصرار متصور في حقه قطعا ، فيتصور في حقه ضده [ ص: 297 ] ، وهو التوبة ، بل هي أولى بالإمكان والتصور من الإصرار ، وهذا واضح .
والفرق بين هذا وبين المعاين ، ومن ورد القيامة أن التكليف قد انقطع بالمعاينة وورود القيامة ، والتوبة إنما تكون في زمن التكليف ، وهذا العاجز لم ينقطع عنه التكليف ، فالأوامر والنواهي لازمة له ، والكف متصور منه عن التمني والوداد ، والأسف على فوته ، وتبديل ذلك بالندم والحزن على فعله ، والله أعلم .