وإن كانت المظلمة بقدح فيه ، بغيبة أو قذف فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه والتحلل منه ؟ أو إعلامه بأنه قد نال من عرضه ولا يشترط تعيينه ، أو لا يشترط لا هذا ولا هذا ، بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله من غير إعلام من قذفه وإعتابه ؟
على ثلاثة أقوال ، وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف ، أم لا ؟ ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم . هل يشترط في توبة القاذف إعلام المقذوف ، والتحلل منه
والمعروف في مذهب ، الشافعي وأبي حنيفة ، ومالك اشتراط الإعلام والتحلل ، هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم .
والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه .
ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه ، لا سيما إذا كان من عليه الحق عارفا بقدره ، فلا بد من إعلام مستحقه به ، لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره .
واحتجوا بالحديث المذكور ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : . من كان لأخيه عنده مظلمة - من مال أو عرض - فليتحلله اليوم
قالوا : ولأن في هذه الجناية حقين : حقا لله ، وحقا للآدمي ، فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه ، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه .
قالوا : ولهذا كانت لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه ، إن شاء اقتص وإن شاء عفا ، وكذلك توبة قاطع الطريق . توبة القاتل
والقول الآخر : أنه لا يشترط بل يكفي توبته بينه وبين الله ، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به [ ص: 301 ] من الغيبة ، فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه ، وذكر محاسنه ، وقذفه بذكر عفته وإحصانه ، ويستغفر له بقدر ما اغتابه . الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه ،
وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية ، قدس الله روحه .
واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة ، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقا وغما ، وقد كان مستريحا قبل سماعه ، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله ، وأورثته ضررا في نفسه أو بدنه ، كما قال الشاعر :
فإن الذي يؤذيك منه سماعه وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه ، فضلا عن أن يوجبه ويأمر به .قالوا : وربما كان إعلامه به سببا للعداوة والحرب بينه وبين القائل ، فلا يصفو له أبدا ، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف ، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب ، والتراحم والتعاطف والتحابب .
قالوا : والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين :
أحدهما : أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه ، فلا يجوز إخفاؤها عنه ، فإنه محض حقه ، فيجب عليه أداؤه إليه ، بخلاف الغيبة والقذف ، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط ، فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس .
والثاني : أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه ، ولم تهج منه غضبا ولا عداوة ، بل ربما سره ذلك وفرح به ، بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلا ونهارا ، من أنواع القذف والغيبة والهجو ، فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد ، وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت ، والله أعلم .