فصل
فإن قيل : قد ذكرتم أن
nindex.php?page=treesubj&link=30516المحب يسامح بما لا يسامح به غيره ، ويعفى للولي عما لا يعفى لسواه ، وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=18471العالم أيضا ، يغفر له ما لا يغفر للجاهل ، كما روى
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني بإسناد جيد - مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980246إن الله - سبحانه - إذا جمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد ، قال للعلماء : إني كنت أعبد بفتواكم ، وقد علمت أنكم كنتم تخلطون كما يخلط الناس ، وإني لم أضع علمي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم ، اذهبوا فقد غفرت لكم ، هذا معنى الحديث ، وقد روي مسندا ومرسلا .
فهذا الذي ذكرتم صحيح ، وهو مقتضى الحكمة والجود والإحسان ، ولكن ماذا تصنعون بالعقوبة المضاعفة التي ورد التهديد بها في حق أولئك إن وقع منهم ما يكره ؟ كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=30يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين [ ص: 342 ] وقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=74ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=75إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا أي لولا تثبيتنا لك لقد كدت تركن إليهم بعض الشيء ، ولو فعلت لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، أي ضاعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ، وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=44ولو تقول علينا بعض الأقاويل nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=45لأخذنا منه باليمين nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=46ثم لقطعنا منه الوتين أي لو أتى بشيء من عند نفسه لأخذنا منه بيمينه ، وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه ، وقد أعاذه الله من الركون إلى أعدائه بذرة من قلبه ، ومن التقول عليه سبحانه ، وكم من راكن إلى أعدائه ومتقول عليه من قبل نفسه قد أمهله ولم يعبأ به ، كأرباب البدع كلهم ، المتقولين على أسمائه وصفاته ودينه .
وما ذكرتم في قصة
يونس هو من هذا الباب ، فإنه لم يسامح بغضبة ، وسجن لأجلها في بطن الحوت ، ويكفي حال
أبي البشر حيث لم يسامح بلقمة ، وكانت سبب إخراجه من الجنة .
فالجواب أن هذا أيضا حق ، ولا تنافي بين الأمرين ، فإن من كملت عليه نعمة الله ، واختصه منها بما لم يختص به غيره في إعطائه منها ما حرمه غيره ، فحبي بالإنعام ، وخص بالإكرام ، وخص بمزيد التقريب ، وجعل في منزلة الولي الحبيب ، اقتضت حاله من حفظ مرتبة الولاية والقرب والاختصاص بأن يراعي مرتبته من أدنى مشوش وقاطع ، فلشدة الاعتناء به ، ومزيد تقريبه ، واتخاذه لنفسه ، واصطفائه على غيره ، تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم ، ونعمه عليه أكمل ، والمطلوب منه فوق المطلوب من غيره ، فهو إذا غفل وأخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد البراني ، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك أيضا ، فيجتمع في حقه الأمران .
وإذا أردت معرفة اجتماعهما ، وعدم تناقضهما ، فالواقع شاهد به ، فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم ، ويأخذهم ، ويؤدبهم بما لم يأخذ به غيرهم ، وقد ذكرنا شواهد هذا وهذا ، ولا تناقض بين الأمرين .
وأنت إذا كان لك عبدان ، أو ولدان ، أو زوجتان ، أحدهما أحب إليك من الآخر ، وأقرب إلى قلبك ، وأعز عليك عاملته بهذين الأمرين ، واجتمع في حقه
[ ص: 343 ] المعاملتان بحسب قربه منك ، وحبك له ، وعزته عليك ، فإذا نظرت إلى كمال إحسانك إليه ، وإتمام نعمتك عليه اقتضت معاملته بما لا تعامل به من دونه ، من التنبيه وعدم الإهمال ، وإذا نظرت إلى إحسانه ومحبته لك ، وطاعته وخدمته ، وكمال عبوديته ونصحه وهبت له وسامحته ، وعفوت عنه ، بما لا تفعله مع غيره ، فالمعاملتان بحسب ما منك وما منه .
وقد ظهر اعتبار هذا المعنى في الشرع ، حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزوج إذا تعداه إلى الزنا الرجم ، وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد ، وكذلك ضاعف الحد على الحر الذي قد ملكه نفسه ، وأتم عليه نعمته ، ولم يجعله مملوكا لغيره ، وجعل حد العبد المنقوص بالرق ، الذي لم يحصل له هذه النعمة نصف ذلك .
فسبحان من بهرت حكمته في خلقه وأمره وجزائه عقول العالمين ، وشهدت بأنه أحكم الحاكمين .
لله سر تحت كل لطيفة فأخو البصائر غائص يتملق
فَصْلٌ
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30516الْمُحِبَّ يُسَامَحُ بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ ، وَيُعْفَى لِلْوَلِيِّ عَمَّا لَا يُعْفَى لِسِوَاهُ ، وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=18471الْعَالِمُ أَيْضًا ، يُغْفَرُ لَهُ مَا لَا يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ ، كَمَا رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ - مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980246إِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - إِذَا جَمَعَ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، قَالَ لِلْعُلَمَاءِ : إِنِّي كُنْتُ أُعْبَدُ بِفَتْوَاكُمْ ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْلِطُونَ كَمَا يَخْلِطُ النَّاسُ ، وَإِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمُ ، اذْهَبُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ، هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ ، وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا .
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ صَحِيحٌ ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْجُودِ وَالْإِحْسَانِ ، وَلَكِنْ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْعُقُوبَةِ الْمُضَاعَفَةِ الَّتِي وَرَدَ التَّهْدِيدُ بِهَا فِي حَقِّ أُولَئِكَ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا يُكْرَهُ ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=30يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [ ص: 342 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=74وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=75إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا أَيْ لَوْلَا تَثْبِيتُنَا لَكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ بَعْضَ الشَّيْءِ ، وَلَوْ فَعَلْتَ لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ عَذَابِ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ عَذَابِ الْمَمَاتِ ، أَيْ ضَاعَفْنَا لَكَ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=44وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=45لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=46ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ أَيْ لَوْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِيَمِينِهِ ، وَقَطَعْنَا نِيَاطَ قَلْبِهِ وَأَهْلَكْنَاهُ ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى أَعْدَائِهِ بِذَرَّةٍ مِنْ قَلْبِهِ ، وَمِنَ التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ ، وَكَمْ مِنْ رَاكِنٍ إِلَى أَعْدَائِهِ وَمُتَقَوِّلٍ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَدْ أَمْهَلَهُ وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ ، كَأَرْبَابِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ ، الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَدِينِهِ .
وَمَا ذَكَرْتُمْ فِي قِصَّةِ
يُونُسَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسَامَحْ بِغَضْبَةٍ ، وَسُجِنَ لِأَجْلِهَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ ، وَيَكْفِي حَالُ
أَبِي الْبَشَرِ حَيْثُ لَمْ يُسَامَحُ بِلُقْمَةٍ ، وَكَانَتْ سَبَبَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَيْضًا حَقٌّ ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَإِنَّ مَنْ كَمُلَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ ، وَاخْتَصَّهُ مِنْهَا بِمَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ غَيْرَهُ فِي إِعْطَائِهِ مِنْهَا مَا حُرِمَهُ غَيْرُهُ ، فَحُبِيَ بِالْإِنْعَامِ ، وَخُصَّ بِالْإِكْرَامِ ، وَخُصَّ بِمَزِيدِ التَّقْرِيبِ ، وَجُعِلَ فِي مَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ الْحَبِيبِ ، اقْتَضَتْ حَالُهُ مِنْ حِفْظِ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ بِأَنْ يُرَاعِيَ مَرْتَبَتَهُ مِنْ أَدْنَى مُشَوِّشٍ وَقَاطِعٍ ، فَلِشِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ ، وَمَزِيدِ تَقْرِيبِهِ ، وَاتِّخَاذِهِ لِنَفْسِهِ ، وَاصْطِفَائِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، تَكُونُ حُقُوقُ وَلِيِّهِ وَسَيِّدِهِ عَلَيْهِ أَتَمَّ ، وَنِعَمُهُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ فَوْقَ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَهُوَ إِذَا غَفَلَ وَأَخَلَّ بِمُقْتَضَى مَرْتَبَتِهِ نُبِّهَ بِمَا لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ الْبَرَّانِيُّ ، مَعَ كَوْنِهِ يُسَامَحُ بِمَا لَمْ يُسَامَحْ بِهِ ذَلِكَ أَيْضًا ، فَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ الْأَمْرَانِ .
وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ اجْتِمَاعِهِمَا ، وَعَدَمِ تَنَاقُضِهِمَا ، فَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهِ ، فَإِنَّ الْمَلِكَ يُسَامِحُ خَاصَّتَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ بِمَا لَمْ يُسَامِحْ بِهِ مَنْ لَيْسَ فِي مَنْزِلَتِهِمْ ، وَيَأْخُذُهُمْ ، وَيُؤَدِّبُهُمْ بِمَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ غَيْرَهُمْ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَوَاهِدَ هَذَا وَهَذَا ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ .
وَأَنْتَ إِذَا كَانَ لَكَ عَبْدَانِ ، أَوْ وَلَدَانِ ، أَوْ زَوْجَتَانِ ، أَحَدُهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ الْآخَرِ ، وَأَقْرَبُ إِلَى قَلْبِكَ ، وَأَعَزُّ عَلَيْكَ عَامَلْتَهُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، وَاجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ
[ ص: 343 ] الْمُعَامَلَتَانِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنْكَ ، وَحُبِّكَ لَهُ ، وَعِزَّتِهِ عَلَيْكَ ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى كَمَالِ إِحْسَانِكَ إِلَيْهِ ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِكَ عَلَيْهِ اقْتَضَتْ مُعَامَلَتُهُ بِمَا لَا تُعَامِلُ بِهِ مَنْ دُونَهُ ، مِنَ التَّنْبِيهِ وَعَدَمِ الْإِهْمَالِ ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى إِحْسَانِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَكَ ، وَطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ ، وَكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ وَنُصْحِهِ وَهَبْتَ لَهُ وَسَامَحْتَهُ ، وَعَفَوْتَ عَنْهُ ، بِمَا لَا تَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ ، فَالْمُعَامَلَتَانِ بِحَسَبِ مَا مِنْكَ وَمَا مِنْهُ .
وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الشَّرْعِ ، حَيْثُ جَعَلَ حَدَّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالتَّزَوُّجِ إِذَا تَعَدَّاهُ إِلَى الزِّنَا الرَّجْمَ ، وَحَدَّ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْجَلْدَ ، وَكَذَلِكَ ضَاعَفَ الْحَدَّ عَلَى الْحُرِّ الَّذِي قَدْ مَلَّكَهُ نَفْسَهُ ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ ، وَجَعَلَ حَدَّ الْعَبْدِ الْمَنْقُوصِ بِالرِّقِّ ، الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذِهِ النِّعْمَةُ نِصْفَ ذَلِكَ .
فَسُبْحَانَ مَنْ بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَجَزَائِهِ عُقُولَ الْعَالَمِينَ ، وَشَهِدَتْ بِأَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ .
لِلَّهِ سِرٌّ تَحْتَ كُلِّ لَطِيفَةٍ فَأَخُو الْبَصَائِرِ غَائِصٌ يَتَمَلَّقُ