فصل .
قال : . ورياضة خاصة الخاصة : تجريد الشهود ، والصعود إلى الجمع ، ورفض المعارضات ، وقطع المعاوضات
أما تجريد الشهود ، فنوعان ، أحدهما : تجريده عن الالتفات إلى غيره ، والثاني : تجريده عن رؤيته وشهوده .
وأما الصعود إلى الجمع فيعني به الصعود عن معاني التفرقة إلى الجمع الذاتي ، وهذا يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يصعد عن تفرقة الأفعال إلى وحدة مصدرها .
والثاني : أن يصعد عن علائق الأسماء والصفات إلى الذات ، فإن شهود الذات [ ص: 475 ] بدون علائق الأسماء والصفات عندهم هو حضرة الجمع ، وهذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، لا بد من تحقيقه ، فنقول :
التفرقة تفرقتان : تفرقة في المفعولات ، وتفرقة في معاني الأسماء والصفات ، والجمع جمعان : جمع في الحكم الكوني ، وجمع ذاتي .
فالجمع في الحكم الكوني : اجتماع المفعولات كلها في القضاء والقدر والحكم ، والجمع الذاتي : اجتماع الأسماء والصفات في الذات .
فالذات واحدة جامعة للأسماء والصفات .
والقدر جامع لجميع المقتضيات والمقدورات ، والشهود مترتب على هذا وهذا .
فشهود اجتماع الكائنات في قضائه وقدره وإن كان حقا فهو لا يعطي إيمانا ، فضلا عن أن يكون أعلى مقامات الإحسان ، والفناء في هذا الشهود : غايته فناء في توحيد الربوبية الذي لا ينفع وحده ، ولا بد منه .
وشهود اجتماع الأسماء والصفات ، في وحدة الذات : شهود صحيح ، وهو شهود مطابق للحق في نفسه .
وأما الصعود عن شهود تفرقة الأسماء والصفات وعلائقها إلى وحدة الذات المجردة فغايته أن يكون صاحبه معذورا لضيق قلبه ، وأما أن يكون محمودا في شهوده ذاتا مجردة عن كل اسم وصفة وعن علائقها فكلا ولما .
وأي إيمان يعطي ذلك ؟ وأي معرفة ؟ وإنما هو سلب ونفي في الشهود ، كالسلب والنفي في العلم والاعتقاد ، فنسبته إلى الشهود كنسبة نفي الجهمية وسلبهم إلى الأخبار ، لكن الفرق بينهما أن ذلك السلب في العلم والاعتقاد ، مخالف للحق الثابت في نفس الأمر ، وكذب على الله ، ونفي لما يستحقه من صفات كماله ونعوت جلاله ، ومعاني أسمائه الحسنى .
وأما هذا السلب : فنفي الشعور به للصعود منه إلى الجمع الذاتي مع الإيمان به ، والاعتراف بثبوته ، فهذا لون وذاك لون .
والكمال : شهود الأمر على ما هو عليه ، ويشهد الذات موصوفة بصفات الجلال ، منعوتة بنعوت الكمال ، وكلما كثر شهوده لمعاني الأسماء والصفات كان أكمل .
نعم قد يعذر في الفناء في الذات المجردة ، لقوة الوارد ، وضعف المحل عن شهود معاني الأسماء والصفات .
[ ص: 476 ] فتأمل هذا الموضع ، وأعطه حقه ، ولا يصدنك عن تحقيق ذلك ما يحيل عليه أرباب الفناء من الكشف والذوق ، فإنا لا ننكره ، بل نقر به ، ولكن الشأن في مرتبته ، وبالله التوفيق .
وأما رفض المعارضات فيحتمل أمرين .
أحدهما : ما يعارض شهوده الجمعي من التفرقات ، وهو مراده .
والثاني : ما يعارض إرادته من الإرادات ، وما يعارض مراد الله من المرادات ، وهذا أكمل من الأول ، وأعلى منه .
وأما قطع المعاوضات فهو تجريد المعاملة عن إرادة المعاوضة ، بل يجردها لذاته ، وأنه أهل أن يعبد ولو لم يحصل لعابده عوض منه ، فإنه يستحق أن يعبد لذاته لا لعلة ، ولا لعوض ولا لمطلوب ، وهذا أيضا موضع لا بد من تجريده .
فيقال : ملاحظة المعاوضة ضرورية للعامل ، وإنما الشأن في ملاحظة الأعواض وتباينها ، فالمحب الصادق الذي قد تجرد عن ملاحظة عوض قد لاحظ أعظم الأعواض ، وشمر إليها ، وهي قربه من الله ووصوله إليه ، واشتغاله به عما سواه ، والتنعم بحبه ولذة الشوق إلى لقائه ، فهذه أعواض لا بد للخاصة منها ، وهي من أجل مقاصدهم وأغراضهم ، ولا تقدح في مقاماتهم ، وتجريد عبودياتهم ، بل أكملهم عبودية أشدهم التفاتا إلى هذه الأعواض .
نعم طلب الأعواض المنفصلة المخلوقة من الجاه ، والمال ، والرياسة ، والملك أو طلب الحور العين والقصور والولدان ، ونحو ذلك بالنسبة إلى تلك الأعواض التي تطلبها الخاصة معلولة ، وهذا لا شك فيه إذا تجرد طلبهم لها .
أما إذا كان مطلوبهم الأعظم الذاتي هو قربه والوصول إليه ، والتنعم بحبه ، والشوق إلى لقائه ، وانضاف إلى هذا طلبهم لثوابه المخلوق المنفصل فلا علة في هذه العبودية بوجه ما ، ولا نقص ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حولها ندندن يعني الجنة ، وقال [ ص: 477 ] . إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة
ومعلوم أن هذا مسكن خاصة الخاصة ، وسادات العارفين ، فسؤالهم إياه ليس علة في عبوديتهم ، ولا قدحا فيها .
وقد استوفينا ذكر هذا الموضع في ( كتاب سفر الهجرتين ) عند الكلام على علل المقامات .
ويحتمل أن يريد الشيخ بقطع المعاوضات أن تشهد أن الله ما أعطاك شيئا معاوضة ، بل إنما أعطاك تفضلا وإحسانا ، لا لعوض يرجوه منك ، كما يكون عطاء العبد للعبد ، وإنما نتكلم فيما من العبد ، مما يؤمر بالتجرد عنه ، كتجرده عن التفرقة والمعاوضة ، فهذا أليق المعنيين بكلامه ، والله أعلم .