الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة السماع

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة السماع .

وهو اسم مصدر كالنبات ، وقد أمر الله به في كتابه ، وأثنى على أهله ، وأخبر أن البشرى لهم ، فقال تعالى واتقوا الله واسمعوا وقال واسمعوا وأطيعوا وقال ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم وقال فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب وقال وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا وقال [ ص: 478 ] وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق .

وجعل الإسماع منه والسماع منهم دليلا على علم الخير فيهم ، وعدم ذلك دليلا على عدم الخير فيهم ، فقال ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون .

وأخبر عن أعدائه أنهم هجروا السماع ونهوا عنه ، فقال وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه .

فالسماع رسول الإيمان إلى القلب وداعيه ومعلمه ، وكم في القرآن من قوله : أفلا يسمعون وقال أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها الآية .

فالسماع أصل العقل ، وأساس الإيمان الذي انبنى عليه ، وهو رائده وجليسه ووزيره ، ولكن الشأن كل الشأن في المسموع ، وفيه وقع خبط الناس واختلافهم ، وغلط منهم من غلط .

وحقيقة السماع تنبيه القلب على معاني المسموع ، وتحريكه عنها طلبا وهربا [ ص: 479 ] وحبا وبغضا ، فهو حاد يحدو بكل أحد إلى وطنه ومألفه .

وأصحاب السماع ، منهم : من يسمع بطبعه ونفسه وهواه ، فهذا حظه من مسموعه ما وافق طبعه .

ومنهم من يسمع بحاله وإيمانه ومعرفته وعقله ، فهذا يفتح له من المسموع بحسب استعداده وقوته ومادته .

ومنهم من يسمع بالله ، لا يسمع بغيره ، كما في الحديث الإلهي الصحيح " فبي يسمع ، وبي يبصر " وهذا أعلى سماعا ، وأصح من كل أحد .

والكلام في السماع مدحا وذما يحتاج فيه إلى معرفة صورة المسموع ، وحقيقته وسببه ، والباعث عليه ، وثمرته وغايته ، فبهذه الفصول الثلاثة يتحرر أمر السماع ويتميز النافع منه والضار ، والحق والباطل ، والممدوح والمذموم .

فأما المسموع فعلى ثلاثة أضرب :

أحدها : مسموع يحبه الله ويرضاه ، وأمر به عباده ، وأثنى على أهله ، ورضي عنهم به .

الثاني : مسموع يبغضه ويكرهه ، ونهى عنه ، ومدح المعرضين عنه .

الثالث : مسموع مباح مأذون فيه ، لا يحبه ولا يبغضه ، ولا مدح صاحبه ولا ذمه ، فحكمه حكم سائر المباحات من المناظر ، والمشام ، والمطعومات ، والملبوسات المباحة ، فمن حرم هذا النوع الثالث فقد قال على الله ما لا يعلم ، وحرم ما أحل الله ، ومن جعله دينا وقربة يتقرب به إلى الله ، فقد كذب على الله ، وشرع دينا لم يأذن به الله ، وضاهأ بذلك المشركين .

التالي السابق


الخدمات العلمية