فصل
قال : الدرجة الثالثة :
nindex.php?page=treesubj&link=24628الزهد في الزهد . وهو بثلاثة أشياء : استحقار ما زهدت فيه . واستواء الحالات فيه عندك . والذهاب عن شهود الاكتساب ، ناظرا إلى وادي الحقائق .
وقد فسر الشيخ مراده بالزهد في الزهد بثلاثة أشياء .
أحدها : احتقاره ما زهد فيه . فإن من امتلأ قلبه بمحبة الله وتعظيمه لا يرى أن ما تركه لأجله من الدنيا يستحق أن يجعل قربانا ؛ لأن الدنيا بحذافيرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة . فالعارف لا يرى زهده فيها كبير أمر يعتد به ويحتفل له ، فيستحي من صح له الزهد أن يجعل لما تركه لله قدرا يلاحظ زهده فيه ، بل يفنى عن زهده فيه كما فني عنه . ويستحي من ذكره بلسانه ، وشهوده بقلبه .
وأما استواء الحالات فيه عنده فهو أن يرى
nindex.php?page=treesubj&link=24628ترك ما زهد فيه وأخذه متساويين عنده . إذ ليس له عنده قدر . وهذا من دقائق فقه الزهد . فيكون زاهدا في حال أخذه ، كما هو زاهد في حال تركه ، إذ همته أعلى من ملاحظته أخذا وتركا ، لصغره في عينه .
وأما الذهاب عن شهود الاكتساب فمعناه أن من استصغر الدنيا بقلبه ، واستوت الحالات في أخذها وتركها عنده لم ير أنه اكتسب بتركها عند الله درجة البته ؛ لأنها أصغر في عينه من أن يرى أنه اكتسب بتركها الدرجات .
وفيه معنى آخر : وهو أن يشاهد تفرد الله عز وجل بالعطاء والمنع . فلا يرى أنه ترك شيئا ولا أخذ شيئا . بل الله وحده هو المعطي المانع . فما أخذه فهو مجرى لعطاء الله إياه ، كمجرى الماء في النهر . وما تركه لله ، فالله سبحانه وتعالى هو الذي منعه منه . فيذهب بمشاهدة الفعال وحده عن شهود كسبه وتركه . فإذا نظر إلى الأشياء بعين الجمع ، وسلك في وادي الحقيقة ، غاب عن شهود اكتسابه . وهو معنى قوله : ناظرا إلى وادي الحقائق . وهذا أليق المعنيين بكلامه . فهذا زهد الخاصة . قال الشاعر :
[ ص: 22 ] إذا زهدتني في الهوى خشية الردى جلت لي عن وجه يزهد في الزهد
فَصْلٌ
قَالَ : الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=24628الزُّهْدُ فِي الزُّهْدِ . وَهُوَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : اسْتِحْقَارُ مَا زَهِدْتَ فِيهِ . وَاسْتِوَاءُ الْحَالَاتِ فِيهِ عِنْدَكَ . وَالذَّهَابُ عَنْ شُهُودِ الِاكْتِسَابِ ، نَاظِرًا إِلَى وَادِي الْحَقَائِقِ .
وَقَدْ فَسَّرَ الشَّيْخُ مُرَادَهُ بِالزُّهْدِ فِي الزُّهْدِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ .
أَحَدُهَا : احْتِقَارُهُ مَا زَهِدَ فِيهِ . فَإِنَّ مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ لَا يَرَى أَنَّ مَا تَرَكَهُ لِأَجْلِهِ مِنَ الدُّنْيَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجْعَلَ قُرْبَانًا ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ . فَالْعَارِفُ لَا يَرَى زُهْدَهُ فِيهَا كَبِيرَ أَمْرٍ يُعْتَدُّ بِهِ وَيُحْتَفَلُ لَهُ ، فَيَسْتَحِي مَنْ صَحَّ لَهُ الزُّهْدُ أَنْ يَجْعَلَ لِمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ قَدْرًا يُلَاحَظُ زُهْدَهُ فِيهِ ، بَلْ يَفْنَى عَنْ زُهْدِهِ فِيهِ كَمَا فَنِيَ عَنْهُ . وَيَسْتَحِي مِنْ ذِكْرِهِ بِلِسَانِهِ ، وَشُهُودِهِ بِقَلْبِهِ .
وَأَمَّا اسْتِوَاءُ الْحَالَاتِ فِيهِ عِنْدَهُ فَهُوَ أَنْ يَرَى
nindex.php?page=treesubj&link=24628تَرْكَ مَا زَهِدَ فِيهِ وَأَخْذَهُ مُتَسَاوِيَيْنِ عِنْدَهُ . إِذْ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ قَدْرٌ . وَهَذَا مِنْ دَقَائِقَ فِقْهِ الزُّهْدِ . فَيَكُونُ زَاهِدًا فِي حَالِ أَخْذِهِ ، كَمَا هُوَ زَاهِدٌ فِي حَالِ تَرْكِهِ ، إِذْ هِمَّتُهُ أَعْلَى مِنْ مُلَاحَظَتِهِ أَخْذًا وَتَرْكًا ، لِصِغَرِهِ فِي عَيْنِهِ .
وَأَمَّا الذَّهَابُ عَنْ شُهُودِ الِاكْتِسَابِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنِ اسْتَصْغَرَ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ ، وَاسْتَوَتِ الْحَالَاتُ فِي أَخْذِهَا وَتَرْكِهَا عِنْدَهُ لَمْ يَرَ أَنَّهُ اكْتَسَبَ بِتَرْكِهَا عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَةً الْبَتَّهَ ؛ لِأَنَّهَا أَصْغَرُ فِي عَيْنِهِ مِنْ أَنْ يَرَى أَنَّهُ اكْتَسَبَ بِتَرْكِهَا الدَّرَجَاتِ .
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ : وَهُوَ أَنْ يُشَاهِدَ تَفَرُّدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ . فَلَا يَرَى أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا وَلَا أَخَذَ شَيْئًا . بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ . فَمَا أَخَذَهُ فَهُوَ مَجْرًى لِعَطَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ ، كَمَجْرَى الْمَاءِ فِي النَّهْرِ . وَمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْهُ . فَيَذْهَبُ بِمُشَاهَدَةِ الْفَعَّالِ وَحْدَهُ عَنْ شُهُودِ كَسْبِهِ وَتَرْكِهِ . فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْأَشْيَاءِ بِعَيْنِ الْجَمْعِ ، وَسَلَكَ فِي وَادِي الْحَقِيقَةِ ، غَابَ عَنْ شُهُودِ اكْتِسَابِهِ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : نَاظِرًا إِلَى وَادِي الْحَقَائِقِ . وَهَذَا أَلْيَقُ الْمَعْنَيَيْنِ بِكَلَامِهِ . فَهَذَا زُهْدُ الْخَاصَّةِ . قَالَ الشَّاعِرُ :
[ ص: 22 ] إِذَا زَهَّدَتْنِي فِي الْهَوَى خَشْيَةُ الرَّدَى جَلَتْ لِي عَنْ وَجْهٍ يُزَهِّدُ فِي الزُّهْدِ