قال : . وهو أن لا يجنح الحال إلى علم ، ولا يخضع لرسم ، ولا يلتفت إلى حظ . الدرجة الثانية : تهذيب الحال
أما فهو نوعان : ممدوح ، ومذموم . جنوح الحال إلى العلم
فالممدوح : التفاته إليه ، وإصغاؤه إلى ما يأمر به ، وتحكيمه عليه ، فمتى لم يجنح إليه هذا الجنوح كان حالا مذموما . ناقصا مبعدا عن الله . فإن كل حال لا يصحبه علم يخاف عليه أن يكون من خدع الشيطان . وهذا القدر هو الذي أفسد على أرباب الأحوال أحوالهم ، وعلى أهل الثغور ثغورهم ، وشردهم عن الله كل مشرد ، وطردهم عنه كل مطرد ؛ حيث لم يحكموا عليه العلم ، وأعرضوا عنه صفحا ، حتى قادهم إلى الانسلاخ من حقائق الإيمان ، وشرائع الإسلام .
وهم الذين قال فيهم سيد الطائفة لما قيل له : أهل المعرفة [ ص: 100 ] يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله - فقال الجنيد بن محمد - الجنيد : إن هذا كلام قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الجوارح . وهو عندي عظيمة . والذي يزني ويسرق أحسن حالا من الذي يقول هذا . فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله . وإليه رجعوا فيها . ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة ، إلا أن يحال بي دونها .
وقال : الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقال : من لم يحفظ القرآن ، ويكتب الحديث لا يقتدى به في طريقنا هذا ؛ لأن طريقنا وعلمنا مقيد بالكتاب والسنة .
وقال : علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والبلية التي عرضت لهؤلاء : أن أحكام العلم تتعلق بالعلم وتدعو إليه . وأحكام الحال تتعلق بالكشف . وصاحب الحال ترد عليه أمور ليست في طور العلم . فإن أقام عليها ميزان العلم ومعياره ، تعارض عنده العلم والحال ، فلم يجد بدا من الحكم على أحدهما بالإبطال . فمن حصلت له أحوال الكشف ، ثم جنح إلى أحكام العلم . فقد رجع القهقرى ، وتأخر في سيره إلى وراء .
فتأمل هذا الوارد ، وهذه الشبهة التي هي سم ناقع تخرج صاحبها من المعرفة والدين كإخراج الشعرة من العجين .
واعلم أن المعرفة الصحيحة هي روح العلم . والحال الصحيح هو روح العمل المستقيم . فكل حال لا يكون نتيجة العمل المستقيم مطابقا للعلم فهو بمنزلة الروح الخبيثة الفاجرة . ولا ينكر أن يكون لهذه الروح أحوال ، لكن الشأن في مرتبة تلك الأحوال ومنازلها . فمتى عارض الحال حكم من أحكام العلم ، فذلك الحال إما فاسد وإما ناقص . ولا يكون مستقيما أبدا .
فالعلم الصحيح ، والعلم المستقيم : هما ميزان المعرفة الصحيحة ، والحال الصحيح ، وهما كالبدنين لروحيهما .
فأحسن ما يحمل عليه قوله : " أن يجنح الحال إلى العلم " أن العلم يدعو إلى التفرقة دائما . والحال يدعو إلى الجمعية . والقلب بين هذين الداعيين . فهو يجيب هذا مرة وهذا مرة . فتهذيب الحال وتصفيته : أن يجيب داعي الحال لا داعي العلم . ولا يلزم من هذا إعراضه عن العلم ، وعدم تحكيمه والتسليم له ، بل هو متعبد بالعلم ، محكم له ، [ ص: 101 ] مستسلم له ، غير مجيب لداعيه من التفرقة . بل هو مجيب لداعي الحال والجمعية ، آخذ من العلم ما يصحح له حاله وجمعيته ، غير مستغرق فيه استغراق من هو مطرح همته وغاية مقصده ، لا مطلوب له سواه ، ولا مراد له إلا إياه . فالعلم عنده آلة ووسيلة . وطريق توصله إلى مقصده ومطلوبه . فهو كالدليل بين يديه . يدعوه إلى الطريق ويدله عليها ، فهو يجيب داعيه للدلالة ومعرفة الطريق . وما في قلبه من ملاحظة مقصده ، ومطلبه من سيره وسفره وباعث همته على الخروج من أوطانه ومرباه ، ومن بين أصحابه وخلطائه . الحامل له على الاغتراب . والتفرد في طريق الطلب : هو المسير له ، والمحرك والباعث . فلا يجنح عن داعيه إلى اشتغاله بجزيئات أحوال الدليل . وما هو خارج عن دلالته على طريقه .
فهذا مقصد شيخ الإسلام - إن شاء الله تعالى - لا الوجه الأول . والله سبحانه وتعالى أعلم .
فصل
وأما قوله : ولا يخضع لرسم ، أي لا يستولي على قلبه شيء من الكائنات ، بحيث يخضع له قلبه ، فإن صاحب الحال : إنما يطلب الحي القيوم . فلا ينبغي له أن يقف عند المعاهد والرسوم .
وأما قوله : ولا يلتفت إلى حظ ؛ أي إذا حصل له الحال التام : لم يشتغل بفرحه به ، وحظه منه واستلذاذه . فإن ذلك حظ من حظوظ النفس ، وبقية من بقاياها .