فصل  
قال صاحب " المنازل " :  
الشكر : اسم لمعرفة النعمة . لأنها السبيل إلى معرفة المنعم . ولهذا سمى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن : شكرا .  
فمعرفة النعمة : ركن من أركان الشكر . لا أنها جملة الشكر ، كما تقدم : أنه الاعتراف بها ، والثناء عليه بها ، والخضوع له ومحبته ، والعمل بما يرضيه فيها . لكن لما كان معرفتها ركن الشكر الأعظم ، الذي يستحيل وجود الشكر بدونه : جعل أحدهما اسما للآخر .  
قوله : لأنه السبيل إلى معرفة المنعم .  
يعني أنه إذا عرف النعمة توصل بمعرفتها إلى معرفة المنعم بها .  
وهذا من جهة معرفة كونها نعمة ، لا من أي جهة عرفها بها . ومتى عرف المنعم أحبه . وجد في طلبه . فإن من عرف الله أحبه لا محالة . ومن عرف الدنيا أبغضها لا محالة .  
 [ ص: 238 ] وعلى هذا : يكون قوله : الشكر اسم لمعرفة النعمة . مستلزما لمعرفة المنعم . ومعرفته تستلزم محبته . ومحبته تستلزم شكره .  
فيكون قد ذكر بعض أقسام الشكر باللفظ . ونبه على سائرها باللزوم . وهذا من أحسن اختصاره . وكمال معرفته وتصوره ، قدس الله روحه .  
قال :  ومعاني الشكر ثلاثة أشياء      : معرفة النعمة . ثم قبول النعمة . ثم الثناء بها . وهو أيضا من سبل العامة .  
أما معرفتها : فهو إحضارها في الذهن ، ومشاهدتها وتمييزها .  
فمعرفتها : تحصيلها ذهنا ، كما حصلت له خارجا . إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري . فلا يصح من هذا الشكر .  
قوله : ثم قبول النعمة .  
قبولها : هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها . وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه ، ولا بذل ثمن . بل يرى نفسه فيها كالطفيلي . فإن هذا شاهد بقبولها حقيقة .  
قوله : ثم الثناء بها .  
الثناء على المنعم ، المتعلق بالنعمة نوعان : عام ، وخاص . فالعام : وصفه بالجود والكرم ، والبر والإحسان ، وسعة العطاء ، ونحو ذلك .  
والخاص : التحدث بنعمته ، والإخبار بوصولها إليه من جهته . كما قال تعالى  وأما بنعمة ربك فحدث      .  
وفي هذا التحديث المأمور به قولان .  
أحدهما : أنه ذكر النعمة ، والإخبار بها . وقوله : أنعم الله علي بكذا وكذا . قال  مقاتل     : يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة : من جبر اليتم ، والهدى بعد الضلال ، والإغناء بعد العيلة .  
والتحدث بنعمة الله شكر . كما في حديث  جابر  مرفوعا  من صنع إليه معروف فليجز      [ ص: 239 ] به . فإن لم يجد ما يجزي به فليثن . فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره . وإن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور     .  
فذكر  أقسام الخلق الثلاثة      : شاكر النعمة المثني بها ، والجاحد لها والكاتم لها . والمظهر أنه من أهلها ، وليس من أهلها . فهو متحل بما لم يعطه .  
وفي أثر آخر مرفوع :  من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير . ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله . والتحدث بنعمة الله شكر . وتركه كفر . والجماعة رحمة والفرقة عذاب     .  
والقول الثاني : أن  التحدث بالنعمة المأمور به   في هذه الآية : هو الدعوة إلى الله ، وتبليغ رسالته ، وتعليم الأمة . قال  مجاهد     : هي النبوة . قال   الزجاج     : أي بلغ ما أرسلت به ، وحدث بالنبوة التي آتاك الله . وقال  الكلبي     : هو القرآن . أمره أن يقرأه .  
والصواب : أنه يعم النوعين . إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها . وإظهارها من شكرها .  
قوله : وهو أيضا من سبل العامة .  
يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل . إذ جعل نصف الإسلام والإيمان من أضعف السبل .  
بل الشكر سبيل رسل الله وأنبيائه - صلى الله عليهم وسلم أجمعين - أخص خلقه ، وأقربهم إليه .  
ويا عجبا !  أي مقام أرفع من الشكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان   ، حتى المحبة والرضا ، والتوكل وغيرها ؟ فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها . وتالله ليس لخواص أولياء الله ، وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى . لأن الشكر عندهم يتضمن نوع دعوى . وأنه شكر الحق على إنعامه . ففي الشاكر بقية من بقايا رسمه . لم يتخلص عنها ، ويفرغ منها . فلو فني عنها - بتحققه أن الحق سبحانه هو الذي شكر نفسه      [ ص: 240 ] بنفسه ، وأن من لم يكن كيف يشكر من لم يزل - علم أن الشكر من منازل العامة . ولو أن السلطان كسا عبدا من عبيده ثوبا من ثيابه . فأخذ يشكر السلطان على ذلك : لعد مخطئا ، مسيئا للأدب . فإنه مدع بذلك مكافأة السلطان بشكره . فإن الشكر مكافأة . والعبد أصغر قدرا من المكافأة . والشهود للحقيقة يقتضي اتحاد نسبة الأخذ والعطاء ، ورجوعها إلى وصف المعطي وقوته . فالخاصة يسقط عندهم الشكر بالشهود ، وفي حقهم ما هو أعلى منه .  
هذا غاية تقرير كلامهم . وكسوته أحسن عبارة . لئلا يتعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير .  
ونحن معنا  العصمة النافعة      : أن كل أحد - غير المعصوم صلى الله عليه وسلم - فمأخوذ من قوله ومتروك . وكل سبيل لا يوافق سبيله فمهجور غير مسلوك .  
فأما تضمن الشكر لنوع دعوى . فإن أريد بهذه الدعوى إضافة العبد الفعل إلى نفسه ، وأنه كان به وغاب بذلك عن كونه بحول الله وقوته ومنته على عبده : فلعمر الله هذه علة مؤثرة . ودعوى باطلة كاذبة .  
وإن أريد : أن شهوده لشكره شهوده لنعمة الله عليه به ، وتوفيقه له فيه ، وإذنه له به ، ومشيئته عليه ومنته . فشهد عبوديته وقيامه بها ، وكونها بالله . فأي دعوى في هذا ؟ وأي علة ؟ .  
نعم غايته : أنه لا يجامع الفناء . ولا يخوض تياره . فكان ماذا ؟ .  
فأنتم جعلتم الفناء غاية . فأوجب لكم ما أوجب . وقدمتموه على ما قدمه الله ورسوله . فتضمن ذلك تقديم ما أخر ، وتأخير ما قدم . وإلغاء ما اعتبر ، واعتبار ما ألغي .  
ولولا منة الله على الصادقين منكم بتحكيم الرسالة ، والتقيد بالشرع لكان أمرا غير هذا . كما جرى لغير واحد من السالكين على هذه الطريق الخطرة . فلا إله إلا الله . كم فيها من قتيل وسليب ، وجريح وأسير وطريد ؟ .  
وأما قولكم : إن الشاكر فيه بقية من بقايا رسمه .  
فيقال : إذا كانت هذه البقية محض العبودية ومركبها ، والحاملة لها : فأي نقص في هذا ؟ فإن العبودية لا تقوم بنفسها . وإنما تقوم بهذا الرسم . فلا نقص في حمل العبودية عليه ، والسير به إلى الله عز وجل .  
 [ ص: 241 ] نعم ، النقص كل النقص : في حمل النفس والشهوة والحظ المخالف لمراد الرب تعالى الديني على هذا الرسم ، والسير به إلى النفس . ولعل العامل على الفناء بهذه المثابة . وهو ملبوس عليه . فالعارف يستقصي التفتيش عن كمائن النفس .  
وأما قولكم : من لم يكن كيف يشكر من لم يزل ؟ فهذا بالشطح أليق منه بالمعرفة . فإن من لم يزل إذا أمر من لم يكن بالشكر ، ورضيه منه وأحبه وأثنى عليه به ، واستدعاه واقتضاه منه ، وأوجب له به المزيد ، وأضافه إليه ، واشتق منه له الاسم ، وأوقع عليه به الحكم ، وأخبر أنه غاية رضاه منه . وأمره - مع ذلك - أن يشهد أن شكره به ، وبإذنه ومشيئته وتوفيقه : فهذا شكر من لم يكن لمن يزل . وهو محض العبودية .  
وأما ضربكم مثل كسوة السلطان لعبده ، وأخذه في الشكر له مكافأة : فهذا من أبطل الأمثلة عقلا ونقلا وفطرة . وهو الحجاب الذي أوجب لمن قال : إن شكر المنعم لا يجب عقلا ، ما قال ذلك . حتى زعم أن شكره قبيح عقلا . ولولا الشرع لما حسن الإقدام عليه . وضرب هذا المثل الذي ضربتموه بعينه . وهذا من القياس الفاسد ، المتضمن قياس الخالق على المخلوق ، وبمثله عبدت الشمس والقمر والأوثان ، إذ قال المشركون : جناب العظيم لا يهجم عليه بغير وسائل ووسائط . وسرت هاتان الرقيقتان فيمن فسد من أهل التعبد وأهل النظر والبحث . والمعصوم من عصمه الله .  
فيقال : الفرق من وجوه كثيرة جدا . تفوت الحصر .  
منها : أن الملك محتاج فقير إلى من أنعم عليه ، لا يقوم ملكه إلا به . فهو محتاج إلى معاوضة بتلك الكسوة - مثلا - خدمة له ، وحفظا له ، وذبا عنه ، وسعيا في تحصيل مصالحه . فكسوته له من باب المعاوضة والمعاونة . فإذا أخذ في شكره . فكأنه جعل ذلك ثمنا لنعمته . وليس بثمن لها .  
وأما  إنعام الرب تعالى على عبده      : فإحسان إليه ، وتفضل عليه ، ومجرد امتنان . لا لحاجة منه إليه ، ولا لمعاوضة ، ولا لاستعانة به ، ولا ليتكثر به من قلة ، ولا ليتعزز به من ذلة ، ولا ليقوى به من ضعف . سبحانه وبحمده .  
وأمره له بالشكر أيضا : إنعام آخر عليه . وإحسان منه إليه . إذ  منفعة الشكر ترجع إلى العبد دنيا وآخرة      . لا إلى الله . والعبد هو الذي ينتفع بشكره . كما قال تعالى :      [ ص: 242 ] ومن شكر فإنما يشكر لنفسه   فشكر العبد إحسان منه إلى نفسه دنيا وأخرى . فلا يذم ما أتى به من ذلك ، وإن كان لا يحسن مقابلة المنعم به . ولا يستطيع شكره . فإنه إنما هو محسن إلى نفسه بالشكر . لا أنه مكافئ به لنعم الرب . فالرب تعالى لا يستطيع أحد أن يكافئ نعمه أبدا ، ولا أقلها ، ولا أدنى نعمة من نعمه . فإنه تعالى هو المنعم المتفضل ، الخالق للشكر والشاكر ، وما يشكر عليه . فلا يستطيع أحد أن يحصي ثناء عليه . فإنه هو المحسن إلى عبده بنعمه ، وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها . فشكره نعمة من الله أنعم بها عليه . تحتاج إلى شكر آخر . وهلم جرا .  
ومن تمام نعمته سبحانه ، وعظيم بره وكرمه وجوده : محبته له على هذا الشكر . ورضاه منه به . وثناؤه عليه به ، ومنفعته وفائدته مختصة بالعبد . لا تعود منفعته على الله . وهذا غاية الكرم الذي لا كرم فوقه . ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة ، ويرضى عنك . ثم يعيد إليك منفعة شكرك . ويجعله سببا لتوالي نعمه واتصاله إليك ، والزيادة على ذلك منها .  
وهذا الوجه وحده يكفي اللبيب ليتنبه به على ما بعده .  
وأما كون الشهود يسقط الشكر : فلعمر الله ، إنه إسقاط لحق المشكور بحظ الشاهد . نعم بحظ عظيم متعلق بالحق عز وجل ، لا حظ سفلي ، متعلق بالكائنات ولكن صاحبه قد سار من حرم إلى حرم .  
وكان يقع لي هذا القدر منذ أزمان . ولا أتجرأ على التصريح به . لأن أصحابه يرون من ذكرهم به بعين الفرق الأول . فلا يصغون إليه ألبتة ، لا سيما وقد ذاقوا حلاوته ولذته . ورأوا تخبيط أهل الفرق الأول ، وتلوثهم بنفوسهم وعوالمها . وانضاف إلى ذلك : أن جعلوه غاية ، فتركب من هذه الأمور ما تركب . وإذا لاحت الحقائق فليقل القائل ما شاء .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					