[ ص: 374 ] فصل منزلة اليقين
ومن منازل
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين nindex.php?page=treesubj&link=29411_29507منزلة اليقين
وهو من الإيمان منزلة الروح من الجسد . وبه تفاضل العارفون . وفيه تنافس المتنافسون . وإليه شمر العاملون . وعمل القوم إنما كان عليه . وإشاراتهم كلها إليه . وإذا تزوج الصبر باليقين : ولد بينهما حصول الإمامة في الدين . قال الله تعالى ، وبقوله : يهتدي المهتدون
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=24وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون .
وخص سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين . فقال ، وهو أصدق القائلين :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=20وفي الأرض آيات للموقنين .
وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون .
وأخبر عن أهل النار : بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=32وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين .
فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح . وهو حقيقة الصديقية . وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره .
وروى
خالد بن يزيد عن
السفيانين عن
التيمي عن
خيثمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
لا ترضين أحدا بسخط الله . ولا تحمدن أحدا على فضل الله ، ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله . فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص . ولا يرده عنك كراهية كاره . وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضا واليقين ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .
[ ص: 375 ] nindex.php?page=treesubj&link=29507واليقين قرين التوكل . ولهذا فسر التوكل بقوة اليقين .
والصواب : أن التوكل ثمرته ونتيجته . ولهذا حسن اقتران الهدى به .
قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=79فتوكل على الله إنك على الحق المبين فالحق : هو اليقين . وقالت رسل الله :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=12وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا .
ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا . وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط ، وهم وغم . فامتلأ محبة لله . وخوفا منه ورضا به ، وشكرا له ، وتوكلا عليه ، وإنابة إليه . فهو مادة جميع المقامات والحامل لها .
واختلف فيه :
nindex.php?page=treesubj&link=29507هل هو كسبي ، أو موهبي ؟
فقيل : هو العلم المستودع في القلوب . يشير إلى أنه غير كسبي .
وقال
سهل : اليقين من زيادة الإيمان ، ولا ريب أن الإيمان كسبي .
والتحقيق : أنه كسبي باعتبار أسبابه ، موهبي باعتبار نفسه وذاته .
قال
سهل : ابتداؤه المكاشفة . كما قال بعض السلف : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا . ثم المعاينة والمشاهدة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13121ابن خفيف : هو تحقق الأسرار بأحكام المغيبات .
وقال
أبو بكر بن ظاهر : العلم تعارضه الشكوك ، واليقين لا شك فيه .
وعند القوم : اليقين لا يساكن قلبا فيه سكون إلى غير الله .
وقال
ذو النون : اليقين يدعو إلى قصر الأمل ، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد . والزهد يورث الحكمة ، وهي تورث النظر في العواقب .
قال : وثلاثة
nindex.php?page=treesubj&link=29507من أعلام اليقين : قلة مخالطة الناس في العشرة . وترك المدح لهم في العطية . والتنزه عن ذمهم عند المنع . وثلاثة من أعلامه أيضا : النظر إلى الله في كل شيء . والرجوع إليه في كل أمر . والاستعانة به في كل حال .
وقال
الجنيد : اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ، ولا يتغير في القلب .
[ ص: 376 ] وقال
ابن عطاء : على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين .
nindex.php?page=treesubj&link=19862وأصل التقوى مباينة النهي . وهو مباينة النفس . فعلى قدر مفارقتهم النفس : وصلوا إلى اليقين .
وقيل : اليقين هو المكاشفة . وهو على ثلاثة أوجه : مكاشفة في الأخبار . ومكاشفة بإظهار القدرة . ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان .
ومراد القوم بالمكاشفة : ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين . فلا يبقى معك شك ولا ريب أصلا . وهذا نهاية الإيمان . وهو مقام الإحسان .
وقد يريدون بها أمرا آخر . وهو ما يراه أحدهم في برزخ بين النوم واليقظة عند أوائل تجرد الروح عن البدن .
ومن أشار منهم إلى غير هذين : فقد غلط ولبس عليه .
وقال
السري : اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك ، لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك . ولا ترد عنك مقضيا .
وقال
أبو بكر الوراق : اليقين ملاك القلب . وبه كمال الإيمان . وباليقين عرف الله . بالعقل عقل عن الله .
وقال
الجنيد : قد مشى رجال باليقين على الماء . ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا .
وقد اختلف في
nindex.php?page=treesubj&link=29411تفضيل اليقين على الحضور والحضور على اليقين .
فقيل : الحضور أفضل . لأنه وطنات ، واليقين خطرات . وبعضهم رجح اليقين . وقال : هو غاية الإيمان . والأول : رأى أن اليقين ابتداء الحضور ، فكأنه جعل اليقين ابتداء . والحضور دواما .
وهذا الخلاف لا يتبين . فإن اليقين لا ينفك عن الحضور . ولا الحضور عن اليقين . بل في اليقين من زيادة الإيمان ، ومعرفة تفاصيله وشعبه ، وتنزيلها منازلها - ما ليس في الحضور . فهو أكمل منه من هذا الوجه . وفي الحضور من الجمعية ، وعدم التفرقة ، والدخول في الفناء : ما قد ينفك عنه اليقين . فاليقين أخص بالمعرفة . والحضور أخص بالإرادة . والله أعلم .
وقال
النهرجوري : إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء عنده مصيبة .
[ ص: 377 ] وقال
أبو بكر الوراق :
nindex.php?page=treesubj&link=29507اليقين على ثلاثة أوجه : يقين خبر . ويقين دلالة . ويقين مشاهدة .
يريد بيقين الخبر : سكون القلب إلى خبر المخبر وتوثقه به . وبيقين الدلالة : ما هو فوقه . وهو أن يقيم له - مع وثوقه بصدقه - الأدلة الدالة على ما أخبر به .
وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد والقرآن . فإنه سبحانه - مع كونه أصدق الصادقين - يقيم لعباده الأدلة والأمثال والبراهين على صدق أخباره . فيحصل لهم اليقين من الوجهين : من جهة الخبر ، ومن جهة الدليل .
فيرتفعون من ذلك إلى الدرجة الثالثة : وهي يقين المكاشفة بحيث يصير المخبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم . فنسبة الإيمان بالغيب حينئذ إلى القلب : كنسبة المرئي إلى العين . وهذا أعلى أنواع المكاشفة . وهي التي أشار إليها عامر بن عبد قيس في قوله : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من قول علي - كما يظنه من لا علم له بالمنقولات .
وقال بعضهم : رأيت الجنة والنار حقيقة . قيل له : وكيف ؟ قال : رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورؤيتي لهما بعينيه : آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني . فإن بصري قد يطغى ويزيغ ، بخلاف بصره صلى الله عليه وسلم .
واليقين يحمله على الأهوال ، وركوب الأخطار . وهو يأمر بالتقدم دائما . فإن لم يقارنه العلم : حمل على المعاطب .
والعلم يأمر بالتأخر والإحجام . فإن لم يصحبه اليقين قعد بصاحبه عن المكاسب والغنائم . والله أعلم .
[ ص: 374 ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ
وَمِنْ مَنَازِلِ
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ nindex.php?page=treesubj&link=29411_29507مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ
وَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ . وَبِهِ تَفَاضَلَ الْعَارِفُونَ . وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ . وَإِلَيْهِ شَمَّرَ الْعَامِلُونَ . وَعَمَلُ الْقَوْمِ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ . وَإِشَارَاتُهُمْ كُلُّهَا إِلَيْهِ . وَإِذَا تَزَوَّجَ الصَّبْرُ بِالْيَقِينِ : وُلِدَ بَيْنَهُمَا حُصُولُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبِقَوْلِهِ : يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=24وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ .
وَخَصَّ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ . فَقَالَ ، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=20وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ .
وَخَصَّ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ : بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=32وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ .
فَالْيَقِينُ رُوحُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ أَرْوَاحُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ . وَهُوَ حَقِيقَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ . وَهُوَ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ .
وَرَوَى
خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ
السُّفْيَانَيْنِ عَنِ
التَّيْمِيِّ عَنْ
خَيْثَمَةَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
لَا تُرْضِيَنَّ أَحَدًا بِسَخَطِ اللَّهِ . وَلَا تَحْمَدَنَّ أَحَدًا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ ، وَلَا تَذُمَّنَّ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ . فَإِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لَا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ . وَلَا يَرُدُّهُ عَنْكَ كَرَاهِيَةَ كَارِهٍ . وَإِنَّ اللَّهَ بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرُّوحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينِ ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ .
[ ص: 375 ] nindex.php?page=treesubj&link=29507وَالْيَقِينُ قَرِينُ التَّوَكُّلِ . وَلِهَذَا فُسِّرَ التَّوَكُّلُ بِقُوَّةِ الْيَقِينِ .
وَالصَّوَابُ : أَنَّ التَّوَكُّلَ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ . وَلِهَذَا حَسُنَ اقْتِرَانُ الْهُدَى بِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=79فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ فَالْحَقُّ : هُوَ الْيَقِينُ . وَقَالَتْ رُسُلُ اللَّهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=12وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا .
وَمَتَّى وَصَلَ الْيَقِينُ إِلَى الْقَلْبِ امْتَلَأَ نُورًا وَإِشْرَاقًا . وَانْتَفَى عَنْهُ كُلُّ رَيْبٍ وَشَكٍّ وَسَخَطٍ ، وَهَمٍّ وَغَمٍّ . فَامْتَلَأَ مَحَبَّةً لِلَّهِ . وَخَوْفًا مِنْهُ وَرِضًا بِهِ ، وَشْكْرًا لَهُ ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ ، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ . فَهُوَ مَادَّةُ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْحَامِلُ لَهَا .
وَاخْتُلِفَ فِيهِ :
nindex.php?page=treesubj&link=29507هَلْ هُوَ كَسْبِيٌّ ، أَوْ مَوْهِبِيٌّ ؟
فَقِيلَ : هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَوْدَعُ فِي الْقُلُوبِ . يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ كَسْبِيٍّ .
وَقَالَ
سَهْلٌ : الْيَقِينُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِيمَانَ كَسْبِيٌّ .
وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهُ كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهِ ، مَوْهِبِيٌّ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ .
قَالَ
سَهْلٌ : ابْتِدَاؤُهُ الْمُكَاشَفَةُ . كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا . ثُمَّ الْمُعَايَنَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13121ابْنُ خَفِيفٍ : هُوَ تَحَقُّقُ الْأَسْرَارِ بِأَحْكَامِ الْمَغِيبَاتِ .
وَقَالَ
أَبُو بَكْرِ بْنُ ظَاهِرٍ : الْعِلْمُ تُعَارِضُهُ الشُّكُوكُ ، وَالْيَقِينُ لَا شَكَّ فِيهِ .
وَعِنْدَ الْقَوْمِ : الْيَقِينُ لَا يُسَاكِنُ قَلْبًا فِيهِ سُكُونٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ .
وَقَالَ
ذُو النُّونِ : الْيَقِينُ يَدْعُو إِلَى قَصْرِ الْأَمَلِ ، وَقَصْرُ الْأَمَلِ يَدْعُو إِلَى الزُّهْدِ . وَالزُّهْدُ يُورِثُ الْحِكْمَةَ ، وَهِيَ تُورِثُ النَّظَرَ فِي الْعَوَاقِبِ .
قَالَ : وَثَلَاثَةٌ
nindex.php?page=treesubj&link=29507مِنْ أَعْلَامِ الْيَقِينِ : قِلَّةُ مُخَالَطَةِ النَّاسِ فِي الْعَشْرَةِ . وَتَرْكُ الْمَدْحِ لَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ . وَالتَّنَزُّهُ عَنْ ذَمِّهِمْ عِنْدَ الْمَنْعِ . وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِهِ أَيْضًا : النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ . وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ . وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ .
وَقَالَ
الْجُنَيْدُ : الْيَقِينُ هُوَ اسْتِقْرَارُ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْقَلِبُ وَلَا يُحَوَّلُ ، وَلَا يَتَغَيَّرُ فِي الْقَلْبِ .
[ ص: 376 ] وَقَالَ
ابْنُ عَطَاءٍ : عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِمْ مِنَ التَّقْوَى أَدْرَكُوا مِنَ الْيَقِينِ .
nindex.php?page=treesubj&link=19862وَأَصْلُ التَّقْوَى مُبَايَنَةُ النَّهْيِ . وَهُوَ مُبَايَنَةُ النَّفْسِ . فَعَلَى قَدْرِ مُفَارَقَتِهِمُ النَّفْسَ : وَصَلُوا إِلَى الْيَقِينِ .
وَقِيلَ : الْيَقِينُ هُوَ الْمُكَاشَفَةُ . وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : مُكَاشَفَةٌ فِي الْأَخْبَارِ . وَمُكَاشَفَةٌ بِإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ . وَمُكَاشَفَةُ الْقُلُوبِ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ .
وَمُرَادُ الْقَوْمِ بِالْمُكَاشَفَةِ : ظُهُورُ الشَّيْءِ لِلْقَلْبِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ . فَلَا يَبْقَى مَعَكَ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ أَصْلًا . وَهَذَا نِهَايَةُ الْإِيمَانِ . وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ .
وَقَدْ يُرِيدُونَ بِهَا أَمْرًا آخَرَ . وَهُوَ مَا يَرَاهُ أَحَدُهُمْ فِي بَرْزَخٍ بَيْنَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ عِنْدَ أَوَائِلِ تَجَرُّدِ الرُّوحِ عَنِ الْبَدَنِ .
وَمَنْ أَشَارَ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِ هَذَيْنِ : فَقَدْ غَلِطَ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ
السَّرِيُّ : الْيَقِينُ سُكُونُكَ عِنْدَ جَوَلَانِ الْمَوَارِدِ فِي صَدْرِكَ ، لِتَيَقُّنِكَ أَنَّ حَرَكَتَكَ فِيهَا لَا تَنْفَعُكَ . وَلَا تَرُدَّ عَنْكَ مَقْضِيًّا .
وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ : الْيَقِينُ مَلَاكُ الْقَلْبِ . وَبِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ . وَبِالْيَقِينِ عُرِفَ اللَّهُ . بِالْعَقْلِ عُقِلَ عَنِ اللَّهِ .
وَقَالَ
الْجُنَيْدُ : قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ . وَمَاتَ بِالْعَطَشِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ يَقِينًا .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=29411تَفْضِيلِ الْيَقِينِ عَلَى الْحُضُورِ وَالْحُضُورِ عَلَى الْيَقِينِ .
فَقِيلَ : الْحُضُورُ أَفْضَلُ . لِأَنَّهُ وَطَنَاتٌ ، وَالْيَقِينُ خَطِرَاتٌ . وَبَعْضُهُمْ رَجَّحَ الْيَقِينَ . وَقَالَ : هُوَ غَايَةُ الْإِيمَانِ . وَالْأَوَّلُ : رَأَى أَنَّ الْيَقِينَ ابْتِدَاءُ الْحُضُورِ ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْيَقِينَ ابْتِدَاءً . وَالْحُضُورَ دَوَامًا .
وَهَذَا الْخِلَافُ لَا يَتَبَيَّنُ . فَإِنَّ الْيَقِينَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحُضُورِ . وَلَا الْحُضُورُ عَنِ الْيَقِينِ . بَلْ فِي الْيَقِينِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ ، وَمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ وَشُعَبِهِ ، وَتَنْزِيلِهَا مَنَازِلَهَا - مَا لَيْسَ فِي الْحُضُورِ . فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَفِي الْحُضُورِ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ ، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ ، وَالدُّخُولِ فِي الْفِنَاءِ : مَا قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْيَقِينُ . فَالْيَقِينُ أَخَصُّ بِالْمَعْرِفَةِ . وَالْحُضُورُ أَخَصُّ بِالْإِرَادَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
النَّهْرَجُورِيُّ : إِذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ حَقَائِقَ الْيَقِينِ صَارَ الْبَلَاءُ عِنْدَهُ نِعْمَةً وَالرَّخَاءُ عِنْدَهُ مُصِيبَةً .
[ ص: 377 ] وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ :
nindex.php?page=treesubj&link=29507الْيَقِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : يَقِينُ خَبَرٍ . وَيَقِينُ دَلَالَةٍ . وَيَقِينُ مُشَاهَدَةٍ .
يُرِيدُ بِيَقِينِ الْخَبَرِ : سُكُونَ الْقَلْبِ إِلَى خَبَرِ الْمُخْبِرِ وَتَوَثُّقَهُ بِهِ . وَبِيَقِينِ الدَّلَالَةِ : مَا هُوَ فَوْقَهُ . وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ لَهُ - مَعَ وُثُوقِهِ بِصِدْقِهِ - الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ .
وَهَذَا كَعَامَّةِ أَخْبَارِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ - مَعَ كَوْنِهِ أَصْدَقَ الصَّادِقِينَ - يُقِيمُ لِعِبَادِهِ الْأَدِلَّةَ وَالْأَمْثَالَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ أَخْبَارِهِ . فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْيَقِينُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ ، وَمِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ .
فَيَرْتَفِعُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ : وَهِيَ يَقِينُ الْمُكَاشَفَةِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمُخْبَرُ بِهِ لِقُلُوبِهِمْ كَالْمَرْئِيِّ لِعُيُونِهِمْ . فَنِسْبَةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ حِينَئِذٍ إِلَى الْقَلْبِ : كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ . وَهَذَا أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَةِ . وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عَامِرُ بْنُ عَبَدِ قَيْسٍ فِي قَوْلِهِ : لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا مِنْ قَوْلِ عَلَيٍّ - كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْمَنْقُولَاتِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقِيقَةً . قِيلَ لَهُ : وَكَيْفَ ؟ قَالَ : رَأَيْتُهُمَا بِعَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنَيْهِ : آثَرُ عِنْدِي مِنْ رُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنِي . فَإِنَّ بَصَرِي قَدْ يَطْغَى وَيَزِيغُ ، بِخِلَافِ بَصَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْيَقِينُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَهْوَالِ ، وَرُكُوبِ الْأَخْطَارِ . وَهُوَ يَأْمُرُ بِالتَّقَدُّمِ دَائِمًا . فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ الْعِلْمُ : حُمِلَ عَلَى الْمَعَاطِبِ .
وَالْعِلْمُ يَأْمُرُ بِالتَّأَخُّرِ وَالْإِحْجَامِ . فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْيَقِينُ قَعَدَ بِصَاحِبِهِ عَنِ الْمَكَاسِبِ وَالْغَنَائِمِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .