[ ص: 388 ] فصل والثاني على ثلاثة أقسام .
أحدهما :
nindex.php?page=treesubj&link=29411من اتصف قلبه بصفات نفسه . بحيث صار قلبه نفسا محضة . فغلبت عليه آفات الشهوات ، ودعوات الهوى . فهذا حظه من السماع : كحظ البهائم . لا يسمع إلا دعاء ونداء . والفرق الذي بينها وبينه : غير طائل .
القسم الثاني :
nindex.php?page=treesubj&link=29411من اتصفت نفسه بصفات قلبه . فصارت نفسه قلبا محضا . فغلبت عليه المعرفة والمحبة ، والعقل واللب . وعشق صفات الكمال . فاستنارت نفسه بنور القلب . واطمأنت إلى ربها . وقرت عينها بعبوديته . وصار نعيمها في حبه وقربه . فهذا حظه من السماع مثل - أو قريب من - حظ الملائكة . وسماعه غذاء قلبه وروحه ، وقرة عينه ونعيمه من الدنيا ، ورياضه التي يسرح فيها . وحياته التي بها قوامه . وإلى هذا المعنى قصد أرباب سماع القصائد والأبيات . ولكن أخطأوا الطريق وأخذوا عن الدرب شمالا ووراء .
القسم الثالث : من له منزلة بين منزلتين . وقلبه باق على فطرته الأولى . ولكن ما تصرف في نفسه تصرفا أحالها إليه . وأزال به رسومه . وجلا عنه ظلمتها . ولا قويت النفس على القلب بإحالته إليها . وتصرفت فيه تصرفا أزالت عنه نوره وصحته وفطرته .
nindex.php?page=treesubj&link=29411فبين القلب والنفس منازلات ووقائع ، والحرب بينهما دول وسجال ، تدال النفس عليه تارة ، ويدال عليها تارة .
فهذا حظه من السماع : حظ بين الحظين ، ونصيبه منه بين النصيبين ، فإن صادفه وقت دولة القلب : كان حظه منه قويا . وإن صادفه وقت دولة النفس : كان ضعيفا .
ومن هاهنا يقع التفاوت في الفقه عن الله . والفهم عنه . والابتهاج والنعيم بسماع كلامه .
وصاحب هذه الحال - في حال سماعه - يشتغل القلب بالحرب بينه وبين النفس ، فيفوته من روح المسموع ونعيمه ولذته بحسب اشتغاله عنه بالمحاربة . ولا سبيل له إلى حصول ذلك بتمامه ، حتى تضع الحرب أوزارها . وربما صادفه في حال السماع وارد حق ، أو الظفر بمعنى بديع لا يقدر فكره على صيده كل وقت . فيغيب به ويستغرق فيه عما يأتي بعده . فيعجز عن صيد تلك المعاني . ويدهشه ازدحامها . فيبقى قلبه باهتا . كما يحكى أن بعض العرب : أرسل صائدا له على صيد . فخرج الصيد عليه من أمامه وخلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، فوقف باهتا ينظر يمينا وشمالا . ولم يصطد شيئا . فقال :
[ ص: 389 ] تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
فوظيفته في مثل هذا الحال : أن يفنى عن وارده . ويعلق قلبه بالمتكلم . وكأنه يسمع كلامه منه . ويجعل قلبه نهرا لجريان معانيه . ويفرغه من سوى فهم المراد . وينصب إليه انصبابا يتلقى فيه معانيه ، كتلقي المحب للأحباب القادمين عليه . لا يشغله حبيب منهم عن حبيب . بل يعطى كل قادم حقه . وكتلقي الضيوف والزوار . وهذا إنما يكون مع سعة القلب ، وقوة الاستعداد ، وكمال الحضور .
فإذا سمع خطاب الترغيب والتشويق ، واللطف والإحسان : لا يفنى به عما يجيء بعده من خطاب التخويف والترهيب والعدل . بل يسمع الخطاب الثاني مستصحبا لحكم الخطاب الأول . ويمزج هذا بهذا . ويسير بهما ومعهما جميعا ، عاكفا بقلبه على المتكلم وصفاته سبحانه .
وهذا سير في الله . وهو نوع آخر أعلى وأرفع من مجرد المسير إليه . ولا ينقطع بذلك سيره إليه . بل يدرج سيره . فإن سير القلب في معاني أسمائه وصفاته وتوحيده ومعرفته .
ومتى بقيت للقلب في ذلك ملكة ، واشتد تعلقه به : لم تحجبه معاني المسموع ، وصفات المتكلم بعضها عن بعض ، ولكن في الابتداء يعسر عليه ذلك . وفي التوسط يهون عليه ، ولا انتهاء هاهنا ألبتة . والله المستعان .
فهذه كلمات تشير إلى معاني سماع أهل المعرفة والإيمان ، والأحوال المستقيمة .
وأما السماع الشيطاني : فبالضد من ذلك ، وهو مشتمل على أكثر من مائة مفسدة . ولولا خوف الإطالة لسقناها مفصلة .
وسنفرد لها مصنفا مستقلا . إن شاء الله .
فهذا ما يتعلق بقوله : إن من الأنس بالشواهد : التغذي بالسماع .
وقوله : والوقوف على الإشارات .
الإشارات هي المعاني التي تشير إلى الحقيقة من بعد ، ومن وراء حجاب . وهي تارة تكون من مسموع . وتارة تكون من مرئي . وتارة تكون من معقول . وقد تكون من الحواس كلها .
فالإشارات : من جنس الأدلة والأعلام . وسببها : صفاء يحصل بالجمعية . فيلطف به الحس والذهن . فيستيقظ لإدراك أمور لطيفة . لا يكشف حس غيره وفهمه عن إدراكها .
[ ص: 390 ] وسمعت شيخ الإسلام
ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : الصحيح منها : ما يدل عليه اللفظ بإشارته من باب قياس الأولى .
قلت : مثاله
nindex.php?page=treesubj&link=29022قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=79لا يمسه إلا المطهرون .
قال : والصحيح في الآية ، أن المراد به : الصحف التي بأيدي الملائكة . لوجوه عديدة .
منها : أنه وصفه بأنه مكنون والمكنون : المستور عن العيون . وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة .
ومنها : أنه قال
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=79لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة . ولو أراد المتوضئين لقال : لا يمسه إلا المتطهرون . كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=222إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فالملائكة مطهرون . والمؤمنون متطهرون .
ومنها : أن هذا إخبار . ولو كان نهيا لقال : لا يمسسه بالجزم ، والأصل في الخبر : أن يكون خبرا صورة ومعنى .
ومنها : أن هذا رد على من قال : إن الشيطان جاء بهذا القرآن . فأخبر تعالى أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين . ولا وصول لها إليه ، كما قال تعالى في آية الشعراء
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=210وما تنزلت به الشياطين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=211وما ينبغي لهم وما يستطيعون وإنما تناله الأرواح المطهرة . وهم الملائكة .
ومنها : أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=12فمن شاء ذكره nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=13في صحف مكرمة nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=14مرفوعة مطهرة nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=15بأيدي سفرة nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=16كرام بررة .
قال
مالك في موطئه : أحسن ما سمعت في تفسير قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=79لا يمسه إلا المطهرون أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس .
ومنها : أن الآية مكية من سورة مكية . تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد ، وإثبات الصانع ، والرد على الكفار . وهذا المعنى أليق بالمقصود من فرع عملي . وهو حكم مس المحدث المصحف .
[ ص: 391 ] ومنها : أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس : لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة . إذ من المعلوم : أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا . بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون ، مستور عن العيون عند الله . لا يصل إليه شيطان . ولا ينال منه . ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية . فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك .
فسمعت شيخ الإسلام
ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : لكن تدل الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر . لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون ، لكرامتها على الله . فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر .
وسمعته يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980531لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت . فكيف تلج معرفة الله عز وجل ، ومحبته وحلاوة ذكره ، والأنس بقربه ، في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها ؟ فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة .
ومن هذا : أن طهارة الثوب الطاهر والبدن إذا كانت شرطا في صحة الصلاة والاعتداد بها . فإذا أخل بها كانت فاسدة . فكيف إذا كان القلب نجسا ، ولم يطهره صاحبه ؟ فكيف يعتد له بصلاته ، وإن أسقطت القضاء ؟ وهل طهارة الظاهر إلا تكميل لطهارة الباطن ؟ .
ومن هذا : أن استقبال القبلة في الصلاة شرط لصحتها . وهي بيت الرب . فتوجه المصلى إليها ببدنه وقالبه شرط . فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن ؟ بل وجه بدنه إلى البيت . ووجه قلبه إلى غير رب البيت .
وأمثال ذلك من الإشارات الصحيحة التي لا تنال إلا بصفاء الباطن ، وصحة البصيرة ، وحسن التأمل . والله أعلم .
[ ص: 388 ] فَصْلٌ وَالثَّانِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ .
أَحَدُهُمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29411مَنِ اتَّصَفَ قَلْبُهُ بِصِفَاتِ نَفْسِهِ . بِحَيْثُ صَارَ قَلْبُهُ نَفْسًا مَحْضَةً . فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ آفَاتُ الشَّهَوَاتِ ، وَدَعَوَاتُ الْهَوَى . فَهَذَا حَظُّهُ مِنَ السَّمَاعِ : كَحَظِّ الْبَهَائِمِ . لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً . وَالْفَرْقُ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ : غَيْرُ طَائِلٍ .
الْقِسْمُ الثَّانِي :
nindex.php?page=treesubj&link=29411مَنِ اتَّصَفَتْ نَفْسُهُ بِصِفَاتِ قَلْبِهِ . فَصَارَتْ نَفْسُهُ قَلْبًا مَحْضًا . فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ ، وَالْعَقْلُ وَاللُّبُّ . وَعَشِقَ صِفَاتِ الْكَمَالِ . فَاسْتَنَارَتْ نَفْسُهُ بِنُورِ الْقَلْبِ . وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى رَبِّهَا . وَقَرَّتْ عَيْنُهَا بِعُبُودِيَّتِهِ . وَصَارَ نَعِيمُهَا فِي حُبِّهِ وَقُرْبِهِ . فَهَذَا حَظُّهُ مِنَ السَّمَاعِ مِثْلُ - أَوْ قَرِيبٌ مِنْ - حَظِّ الْمَلَائِكَةِ . وَسَمَاعُهُ غِذَاءُ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ ، وَقُرَّةُ عَيْنِهِ وَنَعِيمُهُ مِنَ الدُّنْيَا ، وَرِيَاضُهُ الَّتِي يَسْرَحُ فِيهَا . وَحَيَاتُهُ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ . وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَصَدَ أَرْبَابُ سَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَالْأَبْيَاتِ . وَلَكِنْ أَخْطَأُوا الطَّرِيقَ وَأَخَذُوا عَنِ الدَّرْبِ شِمَالًا وَوَرَاءً .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ لَهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ . وَقَلْبُهُ بَاقٍ عَلَى فِطْرَتِهِ الْأُولَى . وَلَكِنْ مَا تَصَرَّفَ فِي نَفْسِهِ تَصَرُّفًا أَحَالَهَا إِلَيْهِ . وَأَزَالَ بِهِ رُسُومَهُ . وَجَلَا عَنْهُ ظُلْمَتَهَا . وَلَا قَوِيَتِ النَّفْسُ عَلَى الْقَلْبِ بِإِحَالَتِهِ إِلَيْهَا . وَتَصَرَّفَتْ فِيهِ تَصَرُّفًا أَزَالَتْ عَنْهُ نُورَهُ وَصِحَّتَهُ وَفِطْرَتَهُ .
nindex.php?page=treesubj&link=29411فَبَيْنَ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ مُنَازَلَاتٌ وَوَقَائِعُ ، وَالْحَرْبُ بَيْنَهُمَا دُوَلٌ وَسِجَالٌ ، تُدَالُ النَّفْسُ عَلَيْهِ تَارَةً ، وَيُدَالُ عَلَيْهَا تَارَةً .
فَهَذَا حَظُّهُ مِنَ السَّمَاعِ : حَظٌّ بَيْنَ الْحَظَّيْنِ ، وَنُصِيبُهُ مِنْهُ بَيْنَ النَّصِيبَيْنِ ، فَإِنْ صَادَفَهُ وَقْتُ دَوْلَةِ الْقَلْبِ : كَانَ حَظُّهُ مِنْهُ قَوِيًّا . وَإِنْ صَادَفَهُ وَقْتُ دَوْلَةِ النَّفْسِ : كَانَ ضَعِيفًا .
وَمِنْ هَاهُنَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْفِقْهِ عَنِ اللَّهِ . وَالْفَهْمِ عَنْهُ . وَالِابْتِهَاجُ وَالنَّعِيمُ بِسَمَاعِ كَلَامِهِ .
وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ - فِي حَالِ سَمَاعِهِ - يَشْتَغِلُ الْقَلْبُ بِالْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْسِ ، فَيَفُوتُهُ مِنْ رُوحِ الْمَسْمُوعِ وَنَعِيمِهِ وَلَذَّتِهِ بِحَسَبِ اشْتِغَالِهِ عَنْهُ بِالْمُحَارَبَةِ . وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى حُصُولِ ذَلِكَ بِتَمَامِهِ ، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا . وَرُبَّمَا صَادَفَهُ فِي حَالِ السَّمَاعِ وَارِدُ حُقٍّ ، أَوِ الظَّفَرُ بِمَعْنًى بَدِيعٍ لَا يَقْدِرُ فِكْرُهُ عَلَى صَيْدِهِ كُلَّ وَقْتٍ . فَيَغِيبُ بِهِ وَيَسْتَغْرِقُ فِيهِ عَمَّا يَأْتِي بَعْدَهُ . فَيَعْجِزُ عَنْ صَيْدِ تِلْكَ الْمَعَانِي . وَيُدْهِشُهُ ازْدِحَامُهَا . فَيَبْقَى قَلْبُهُ بَاهِتًا . كَمَا يُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ : أَرْسَلَ صَائِدًا لَهُ عَلَى صَيْدٍ . فَخَرَجَ الصَّيْدُ عَلَيْهِ مِنْ أَمَامِهِ وَخَلْفِهِ ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ، فَوَقَفَ بَاهِتًا يَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا . وَلَمْ يَصْطَدْ شَيْئًا . فَقَالَ :
[ ص: 389 ] تَكَاثَرَتِ الظِّبَاءُ عَلَى خِرَاشٍ فَمَا يَدْرِي خِرَاشٌ مَا يَصِيدُ
فَوَظِيفَتُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ : أَنْ يَفْنَى عَنْ وَارِدِهِ . وَيُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِالْمُتَكَلِّمِ . وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ مِنْهُ . وَيَجْعَلَ قَلْبَهُ نَهْرًا لِجَرَيَانِ مَعَانِيهِ . وَيُفْرِغَهُ مِنْ سِوَى فَهْمِ الْمُرَادِ . وَيَنْصَبَّ إِلَيْهِ انْصِبَابًا يَتَلَقَّى فِيهِ مَعَانِيَهُ ، كَتَلَقِّي الْمُحِبِّ لِلْأَحْبَابِ الْقَادِمِينَ عَلَيْهِ . لَا يَشْغَلُهُ حَبِيبٌ مِنْهُمْ عَنْ حَبِيبٍ . بَلْ يُعْطَى كُلُّ قَادِمٍ حَقَّهُ . وَكَتَلَقِّي الضُّيُوفِ وَالزُّوَّارِ . وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ سَعَةِ الْقَلْبِ ، وَقُوَّةِ الِاسْتِعْدَادِ ، وَكَمَالِ الْحُضُورِ .
فَإِذَا سَمِعَ خِطَابَ التَّرْغِيبِ وَالتَّشْوِيقِ ، وَاللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ : لَا يَفْنَى بِهِ عَمَّا يَجِيءُ بَعْدَهُ مِنْ خِطَابِ التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْعَدْلِ . بَلْ يَسْمَعُ الْخِطَابَ الثَّانِيَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ . وَيَمْزُجُ هَذَا بِهَذَا . وَيَسِيرُ بِهِمَا وَمَعَهُمَا جَمِيعًا ، عَاكِفًا بِقَلْبِهِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ .
وَهَذَا سَيْرٌ فِي اللَّهِ . وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ أَعْلَى وَأَرْفَعُ مِنْ مُجَرَّدِ الْمَسِيرِ إِلَيْهِ . وَلَا يَنْقَطِعُ بِذَلِكَ سَيْرُهُ إِلَيْهِ . بَلْ يُدْرِجُ سَيْرَهُ . فَإِنَّ سَيْرَ الْقَلْبِ فِي مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ .
وَمَتَّى بَقِيَتْ لِلْقَلْبِ فِي ذَلِكَ مَلَكَةٌ ، وَاشْتَدَّ تَعَلُّقُهُ بِهِ : لَمْ تَحْجُبْهُ مَعَانِي الْمَسْمُوعِ ، وَصِفَاتِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ ، وَلَكِنْ فِي الِابْتِدَاءِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَفِي التَّوَسُّطِ يَهُونُ عَلَيْهِ ، وَلَا انْتِهَاءَ هَاهُنَا أَلْبَتَّةَ . وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ تُشِيرُ إِلَى مَعَانِي سَمَاعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ ، وَالْأَحْوَالِ الْمُسْتَقِيمَةِ .
وَأَمَّا السَّمَاعُ الشَّيْطَانِيُّ : فَبِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَفْسَدَةٍ . وَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ لَسُقْنَاهَا مُفَصَّلَةً .
وَسَنُفْرِدُ لَهَا مُصَنَّفًا مُسْتَقِلًّا . إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ : إِنَّ مِنَ الْأُنْسِ بِالشَّوَاهِدِ : التَّغَذِّيَ بِالسَّمَاعِ .
وَقَوْلِهِ : وَالْوُقُوفُ عَلَى الْإِشَارَاتِ .
الْإِشَارَاتُ هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ بُعْدٍ ، وَمِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ . وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ مِنْ مَسْمُوعٍ . وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ مَرْئِيٍّ . وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ مَعْقُولٍ . وَقَدْ تَكُونُ مِنَ الْحَوَاسِّ كُلِّهَا .
فَالْإِشَارَاتُ : مِنْ جِنْسِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَعْلَامِ . وَسَبَبُهَا : صَفَاءٌ يَحْصُلُ بِالْجَمْعِيَّةِ . فَيَلْطُفُ بِهِ الْحِسُّ وَالذِّهْنُ . فَيَسْتَيْقِظُ لِإِدْرَاكِ أُمُورٍ لَطِيفَةٍ . لَا يَكْشِفُ حِسُّ غَيْرِهِ وَفَهْمِهِ عَنْ إِدْرَاكِهَا .
[ ص: 390 ] وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ
ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ : الصَّحِيحُ مِنْهَا : مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِإِشَارَتِهِ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الْأَوْلَى .
قُلْتُ : مِثَالُهُ
nindex.php?page=treesubj&link=29022قَوْلُهُ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=79لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ .
قَالَ : وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ : الصُّحُفُ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ . لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ .
مِنْهَا : أَنَّهُ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مَكْنُونٌ وَالْمَكْنُونُ : الْمَسْتُورُ عَنِ الْعُيُونِ . وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الصُّحُفِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=79لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ . وَلَوْ أَرَادَ الْمُتَوَضِّئِينَ لَقَالَ : لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُتَطَهِّرُونَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=222إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَالْمَلَائِكَةُ مُطَهَّرُونَ . وَالْمُؤْمِنُونَ مُتَطَهِّرُونَ .
وَمِنْهَا : أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ . وَلَوْ كَانَ نَهْيًا لَقَالَ : لَا يَمْسَسْهُ بِالْجَزْمِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْخَبَرِ : أَنْ يَكُونَ خَبَرًا صُورَةً وَمَعْنًى .
وَمِنْهَا : أَنَّ هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ : إِنَّ الشَّيْطَانَ جَاءَ بِهَذَا الْقُرْآنِ . فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا تَنَالُهُ الشَّيَاطِينُ . وَلَا وُصُولَ لَهَا إِلَيْهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الشُّعَرَاءِ
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=210وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=211وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ وَإِنَّمَا تَنَالُهُ الْأَرْوَاحُ الْمُطَهَّرَةُ . وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ .
وَمِنْهَا : أَنَّ هَذَا نَظِيرُ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ عَبَسَ
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=12فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=13فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=14مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=15بِأَيْدِي سَفَرَةٍ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=16كِرَامٍ بَرَرَةٍ .
قَالَ
مَالِكٌ فِي مَوَطَّئِهِ : أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=79لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ أَنَّهَا مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ عَبَسَ .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ مِنْ سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ . تَتَضَمَّنُ تَقْرِيرَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ ، وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ ، وَالرَّدَّ عَلَى الْكُفَّارِ . وَهَذَا الْمَعْنَى أَلْيَقُ بِالْمَقْصُودِ مِنْ فَرْعٍ عَمَلِيٍّ . وَهُوَ حُكْمُ مَسِّ الْمُحْدِثِ الْمُصْحَفَ .
[ ص: 391 ] وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ الْكِتَابُ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ : لَمْ يَكُنْ فِي الْإِقْسَامِ عَلَى ذَلِكَ بِهَذَا الْقَسَمِ الْعَظِيمِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ . إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ : أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِأَنَّ يَكُونَ فِي كِتَابٍ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا . بِخِلَافِ مَا إِذَا وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى أَنَّهُ فِي كِتَابٍ مَصُونٍ ، مَسْتُورٍ عَنِ الْعُيُونِ عِنْدَ اللَّهِ . لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْطَانٌ . وَلَا يَنَالُ مِنْهُ . وَلَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْأَرْوَاحُ الطَّاهِرَةُ الزَّكِيَّةُ . فَهَذَا الْمَعْنَى أَلْيَقُ وَأَجَلُّ وَأَخْلَقُ بِالْآيَةِ وَأَوْلَى بِلَا شَكٍّ .
فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ
ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ : لَكِنْ تَدُلُّ الْآيَةَ بِإِشَارَتِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفُ إِلَّا طَاهِرٌ . لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الصُّحُفُ لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهِّرُونَ ، لِكَرَامَتِهَا عَلَى اللَّهِ . فَهَذِهِ الصُّحُفُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمَسَّهَا إِلَّا طَاهِرٌ .
وَسَمِعَتْهُ يَقُولُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980531لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ يَمْنَعُهَا الْكَلْبُ وَالصُّورَةُ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ . فَكَيْفَ تَلِجُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَحَبَّتُهُ وَحَلَاوَةُ ذِكْرِهِ ، وَالْأُنْسُ بِقُرْبِهِ ، فِي قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ بِكِلَابِ الشَّهَوَاتِ وَصُوَرِهَا ؟ فَهَذَا مِنْ إِشَارَةِ اللَّفْظِ الصَّحِيحَةِ .
وَمِنْ هَذَا : أَنَّ طَهَارَةَ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَالْبَدَنِ إِذَا كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِدَادِ بِهَا . فَإِذَا أَخَلَّ بِهَا كَانَتْ فَاسِدَةً . فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْقَلْبُ نَجِسًا ، وَلَمْ يُطَهِّرْهُ صَاحِبُهُ ؟ فَكَيْفَ يُعْتَدُّ لَهُ بِصَلَاتِهِ ، وَإِنْ أَسْقَطْتِ الْقَضَاءَ ؟ وَهَلْ طَهَارَةُ الظَّاهِرِ إِلَّا تَكْمِيلٌ لِطَهَارَةِ الْبَاطِنِ ؟ .
وَمِنْ هَذَا : أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا . وَهِيَ بَيْتُ الرَّبِّ . فَتَوَجُّهُ الْمُصَلَّى إِلَيْهَا بِبَدَنِهِ وَقَالَبِهِ شَرْطٌ . فَكَيْفَ تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ بِقَلْبِهِ إِلَى رَبِّ الْقِبْلَةِ وَالْبَدَنِ ؟ بَلْ وَجَّهَ بَدَنَهُ إِلَى الْبَيْتِ . وَوَجَّهَ قَلْبَهُ إِلَى غَيْرِ رَبِّ الْبَيْتِ .
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْإِشَارَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِصَفَاءِ الْبَاطِنِ ، وَصِحَّةِ الْبَصِيرَةِ ، وَحُسْنِ التَّأَمُّلِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .