قال : الدرجة الثالثة : وهو شهود ذكر الحق إياك ، والتخلص من شهود ذكرك ، ومعرفة افتراء الذاكر في بقائه مع الذكر . الذكر الحقيقي
إنما سمي هذا الذكر في هذه الدرجة حقيقيا; لأنه منسوب إلى الرب تعالى ، وأما نسبة الذكر للعبد : فليست حقيقية . فذكر الله لعبده هو الذكر الحقيقي ، وهو شهود ذكر الحق عبده وأنه ذكره فيمن اختصه وأهله للقرب منه ولذكره . فجعله ذاكرا له ، ففي الحقيقة : هو الذاكر لنفسه بأن جعل عبده ذاكرا له وأهله لذكره ، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه في باب التوحيد بقوله :
توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد
أي هو الذي وحد نفسه في الحقيقة فتوحيد العبد منسوب إليه حقيقة ، ونسبته إلى [ ص: 408 ] العبد غير حقيقية . إذ ذاك لم يكن به ولا منه وإنما هو مجعول فيه فإن سمي موحدا ذاكرا ، فلكونه مجرى ومحلا لما أجري فيه ، كما يسمى أبيض وأسود وطويلا وقصيرا; لكونه محلا لهذه الصفات لا صنع له فيها ولم توجبها مشيئته ولا حوله ولا قوته . هذا مع ما يتصل بذلك من استيلاء القرب والفناء عن الرسم والغيبة بالمشهود عن الشهود وقوة الوارد ، فيتركب من ذلك ذوق خاص : أنه ما وحد الله إلا الله وما ذكر الله إلا الله وما أحب الله إلا الله .فهذا حقيقة ما عند القوم ، فالعارفون منهم أرباب البصائر أعطوا مع ذلك العبودية حقها والعلم حقه وعرفوا أن العبد عبد حقيقة من كل وجه ، والرب رب حقيقة من كل وجه ، وقاموا بحق العبودية بالله لا بأنفسهم ، ولله لا لحظوظهم وفنوا بمشاهدة معاني أسمائه وصفاته عما سواه ، وبما له محبة ورضا عما به كونا ومشيئة . فإن الكون كله به والذي له : هو محبوبه ومرضيه ، فهو له وبه ، والمنحرفون فنوا بما به عما له ، فوالوا أعداءه وعطلوا دينه وسووا بين محابه ومساخطه ، ومواقع رضاه وغضبه . والله المستعان .
قوله : التخلص من شهود ذكرك . يعني : بفناء شهود ذكره لك عن شهود ذكرك له ، وهذا الشهود يريح العبد من رؤية النفس وملاحظة العمل ويميته ويحييه : يميته عن نفسه ، ويحييه بربه ويفنيه ويقتطعه من نفسه ويوصله بربه ، وهذا هو عين الظفر بالنفس .
قال بعض العارفين : انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم .
قوله : ومعرفة افتراء الذاكر في بقائه مع الذكر .
يعني : أن الباقي مع الذكر يشهد على نفسه أنه ذاكر ، وذلك افتراء منه; فإنه لا فعل له . ولا يزول عنه هذا الافتراء إلا إذا فني عن ذكره فإن شهود ذكره وبقاءه معه افتراء يتضمن نسبة الذكر إليه ، وهي في الحقيقة ليست له .
فيقال : سبحان الله ! أي افتراء في هذا ؟ وهل هذا إلا شهود الحقائق على ما هي عليه ؟ فإنه إذا شهد نفسه ذاكرا بجعل الله له ذاكرا وتأهيله له وتقدم ذكره للعبد على ذكر العبد له ، فاجتمع في شهوده الأمران فأي افتراء هاهنا ؟ ! وهل هذا إلا عين الحق وشهود الحقائق على ما هي عليه ؟ .
نعم الافتراء : أن يشهد ذلك به وبحوله وقوته لا بالله وحده .
لكن الشيخ لا تأخذه في الفناء لومة لائم ، ولا يصغي فيه إلى عاذل .
[ ص: 409 ] والذي لا ريب فيه : أن البقاء في الذكر أكمل من الفناء فيه والغيبة به; لما في البقاء من التفصيل والمعارف وشهود الحقائق على ما هي عليه ، والتمييز بين الرب والعبد وما قام بالعبد وما قام بالرب تعالى وشهود العبودية والمعبود . وليس في الفناء شيء من ذلك ، والفناء - كاسمه - الفناء ، والبقاء بقاء كاسمه ، والفناء مطلوب لغيره والبقاء مطلوب لنفسه والفناء وصف العبد والبقاء وصف الرب . والفناء عدم والبقاء وجود والفناء نفي والبقاء إثبات والسلوك على درب الفناء مخطر ، وكم به من مفازة ومهلكة ، والسلوك على درب البقاء آمن; فإنه درب عليه الأعلام والهداة والخفراء ، ولكن أصحاب الفناء يزعمون أنه طويل ولا يشكون في سلامته وإيصاله إلى المطلوب ، ولكنهم يزعمون أن درب الفناء أقرب وراكبه طائر وراكب درب البقاء سائر ، والكمل من السائرين يرون الفناء منزلة من منازل الطريق وليس نزولها عاما لكل سائر ، بل منهم من لا يراها ولا يمر بها ، وإنما الدرب الأعظم والطريق الأقوم هو درب البقاء . ويحتجون على صاحب الفناء بالانتقال إليه من الفناء ، وإلا فهو عندهم على خطر ، والله المستعان وهو سبحانه أعلم .