فصل
قال : وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=17939_29411منع الخوف : أن لا يتعدى إلى اليأس ، وحبس الرجاء : أن يخرج إلى الأمن ، وضبط السرور : أن يضاهئ الجرأة .
يريد : أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط ، واليأس من رحمة الله . فإن هذا الخوف مذموم .
وسمعت شيخ الإسلام
ابن تيمية - رحمه الله - يقول : حد الخوف ما حجزك عن معاصي الله . فما زاد على ذلك : فهو غير محتاج إليه .
وهذا الخوف الموقع في الإياس : إساءة أدب على رحمة الله تعالى ، التي سبقت غضبه ، وجهل بها .
وأما حبس الرجاء : أن يخرج إلى الأمن
فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن معه العقوبة . فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . وهذا إغراق في الطرف الآخر .
بل
nindex.php?page=treesubj&link=20000حد الرجاء : ما طيب لك العبادة ، وحملك على السير . فهو بمنزلة الرياح التي تسير السفينة . فإذا انقطعت وقفت السفينة . وإذا زادت ألقتها إلى المهالك . وإذا كانت بقدر : أوصلتها إلى البغية .
وأما ضبط السرور : أن يخرج إلى مشابهة الجرأة .
فلا يقدر عليه إلا الأقوياء أرباب العزائم . الذين لا تستفزهم السراء ، فتغلب شكرهم . ولا تضعفهم الضراء . فتغلب صبرهم ، كما قيل :
لا تغلب السراء منهم شكرهم كلا . ولا الضراء صبر الصابر
والنفس قرينة الشيطان ومصاحبته ، وتشبهه في صفاته . ومواهب الرب تبارك وتعالى تنزل
[ ص: 372 ] على القلب والروح . فالنفس تسترق السمع . فإذا نزلت على القلب تلك المواهب : وثبت لتأخذ قسطها منها ، وتصيره من عدتها وحواصلها . فالمسترسل معها ، الجاهل بها فيدعها تستوفي ذلك . فبينا هو في موهبة القلب والروح وعدة وقوة له ، إذ صار ذلك كله من حاصل النفس وآلتها ، وعددها . فصالت به وطغت . لأنها رأت غناها به . والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال . فكيف بما هو أعظم خطرا ، وأجل قدرا من المال ، بما لا نسبة بينهما : من علم ، أو حال ، أو معرفة ، أو كشف ؟ فإذا صار ذلك من حاصلها : انحرف العبد به ولا بد إلى طرف مذموم من جرأة ، أو شطح ، أو إدلال . ونحو ذلك .
فوالله كم هاهنا من قتيل ، وسليب ، وجريح يقول : من أين أتيت ؟ ومن أين دهيت ؟ ومن أين أصبت ؟ وأقل ما يعاقب به من الحرمان بذلك : أن يغلق عنه باب المزيد . ولهذا كان العارفون وأرباب البصائر : إذا نالوا شيئا من ذلك انحرفوا إلى طرف الذل والانكسار ، ومطالعة عيوب النفس . واستدعوا حارس الخوف ، وحافظوا على الرباط بملازمة الثغر بين القلب وبين النفس ، ونظروا إلى أقرب الخلق من الله ، وأكرمهم عليه ، وأدناهم منه وسيلة ، وأعظمهم عنده جاها ، وقد دخل
مكة يوم الفتح ، وذقنه تمس قربوس سرجه : انخفاضا وانكسارا ، وتواضعا لربه تعالى في مثل تلك الحال ، التي عادة النفوس البشرية فيها : أن يملكها سرورها ، وفرحها بالنصر ، والظفر ، والتأييد ، ويرفعها إلى عنان السماء .
فالرجل : من صان فتحه ونصيبه من الله . وواراه عن استراق نفسه . وبخل عليها به ، والعاجز : من جاد لها به . فيا له من جود ما أقبحه . وسماحة ما أسفه صاحبها . والله المستعان .
فَصْلٌ
قَالَ : وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ . الدَّرَجَةُ الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=17939_29411مَنْعُ الْخَوْفِ : أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْيَأْسِ ، وَحَبْسُ الرَّجَاءِ : أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَمْنِ ، وَضَبْطُ السُّرُورِ : أَنْ يُضَاهِئَ الْجُرْأَةَ .
يُرِيدُ : أَنَّهُ لَا يَدْعُ الْخَوْفَ يُفْضِي بِهِ إِلَى حَدٍّ يُوقِعُهُ فِي الْقُنُوطِ ، وَالْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ . فَإِنَّ هَذَا الْخَوْفَ مَذْمُومٌ .
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ
ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : حَدُّ الْخَوْفِ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ . فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ : فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ .
وَهَذَا الْخَوْفُ الْمُوقِعُ فِي الْإِيَاسِ : إِسَاءَةُ أَدَبٍ عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ ، وَجَهْلٌ بِهَا .
وَأَمَّا حَبْسُ الرَّجَاءِ : أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَمْنِ
فَهُوَ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ الرَّجَاءُ إِلَى حَدٍّ يَأْمَنُ مَعَهُ الْعُقُوبَةَ . فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ . وَهَذَا إِغْرَاقٌ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ .
بَلْ
nindex.php?page=treesubj&link=20000حَدُّ الرَّجَاءِ : مَا طَيَّبَ لَكَ الْعِبَادَةَ ، وَحَمَلَكَ عَلَى السَّيْرِ . فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيَاحِ الَّتِي تُسَيِّرُ السَّفِينَةَ . فَإِذَا انْقَطَعَتْ وَقَفَتِ السَّفِينَةُ . وَإِذَا زَادَتْ أَلْقَتْهَا إِلَى الْمَهَالِكِ . وَإِذَا كَانَتْ بِقَدْرٍ : أَوْصَلَتْهَا إِلَى الْبُغْيَةِ .
وَأَمَّا ضَبْطُ السُّرُورِ : أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مُشَابَهَةِ الْجُرْأَةِ .
فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْأَقْوِيَاءُ أَرْبَابُ الْعَزَائِمِ . الَّذِينَ لَا تَسْتَفِزُّهُمُ السَّرَّاءُ ، فَتَغْلِبَ شُكْرَهُمْ . وَلَا تُضْعِفُهُمُ الضَّرَّاءُ . فَتَغْلِبَ صَبْرَهُمْ ، كَمَا قِيلَ :
لَا تَغَلِبُ السَّرَّاءُ مِنْهُمْ شُكْرَهُمْ كَلَّا . وَلَا الضَّرَاءُ صَبْرَ الصَّابِرِ
وَالنَّفْسُ قَرِينَةُ الشَّيْطَانِ وَمُصَاحِبَتُهُ ، وَتُشْبِهُهُ فِي صِفَاتِهِ . وَمَوَاهِبُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَنْزِلُ
[ ص: 372 ] عَلَى الْقَلْبِ وَالرُّوحِ . فَالنَّفْسُ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ . فَإِذَا نَزَلَتْ عَلَى الْقَلْبِ تِلْكَ الْمَوَاهِبُ : وَثَبَتْ لِتَأْخُذَ قِسْطَهَا مِنْهَا ، وَتُصَيِّرَهُ مِنْ عِدَّتِهَا وَحَوَاصِلِهَا . فَالْمُسْتَرْسِلُ مَعَهَا ، الْجَاهِلُ بِهَا فَيَدَعُهَا تَسْتَوْفِي ذَلِكَ . فَبَيْنَا هُوَ فِي مَوْهِبَةِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَعِدَّةٍ وَقُوَّةٍ لَهُ ، إِذْ صَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ حَاصِلِ النَّفْسِ وَآلَتِهَا ، وَعُدَدِهَا . فَصَالَتْ بِهِ وَطَغَتْ . لِأَنَّهَا رَأَتْ غِنَاهَا بِهِ . وَالْإِنْسَانُ يَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى بِالْمَالِ . فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا ، وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ ، بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا : مَنْ عِلْمٍ ، أَوْ حَالٍ ، أَوْ مَعْرِفَةٍ ، أَوْ كَشْفٍ ؟ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ مِنْ حَاصِلِهَا : انْحَرَفَ الْعَبْدُ بِهِ وَلَا بُدَّ إِلَى طَرَفٍ مَذْمُومٍ مِنْ جُرْأَةٍ ، أَوْ شَطْحٍ ، أَوْ إِدْلَالٍ . وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَوَاللَّهِ كَمْ هَاهُنَا مِنْ قَتِيلٍ ، وَسَلِيبٍ ، وَجَرِيحٍ يَقُولُ : مِنْ أَيْنَ أُتِيتُ ؟ وَمِنْ أَيْنَ دُهِيتُ ؟ وَمِنْ أَيْنَ أُصِبْتُ ؟ وَأَقَلُّ مَا يُعَاقَبُ بِهِ مِنَ الْحِرْمَانِ بِذَلِكَ : أَنْ يُغْلَقَ عَنْهُ بَابُ الْمَزِيدِ . وَلِهَذَا كَانَ الْعَارِفُونَ وَأَرْبَابُ الْبَصَائِرِ : إِذَا نَالُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ انْحَرَفُوا إِلَى طَرَفِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ ، وَمُطَالَعَةِ عُيُوبِ النَّفْسِ . وَاسْتَدْعَوْا حَارِسَ الْخَوْفِ ، وَحَافَظُوا عَلَى الرِّبَاطِ بِمُلَازَمَةِ الثَّغْرِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ النَّفْسِ ، وَنَظَرُوا إِلَى أَقْرَبِ الْخَلْقِ مِنَ اللَّهِ ، وَأَكْرَمِهِمْ عَلَيْهِ ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ وَسِيلَةً ، وَأَعْظَمِهِمْ عِنْدَهُ جَاهًا ، وَقَدْ دَخَلَ
مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ ، وَذَقْنَهُ تَمَسُّ قُرْبُوسَ سَرْجِهِ : انْخِفَاضًا وَانْكِسَارًا ، وَتَوَاضُعًا لِرَبِّهِ تَعَالَى فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ ، الَّتِي عَادَةُ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ فِيهَا : أَنْ يَمْلِكَهَا سُرُورُهَا ، وَفَرَحُهَا بِالنَّصْرِ ، وَالظَّفَرِ ، وَالتَّأْيِيدِ ، وَيَرْفَعُهَا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ .
فَالرَّجُلُ : مَنْ صَانَ فَتْحَهُ وَنَصِيبَهُ مِنَ اللَّهِ . وَوَارَاهُ عَنِ اسْتِرَاقِ نَفْسِهِ . وَبَخِلَ عَلَيْهَا بِهِ ، وَالْعَاجِزُ : مَنْ جَادَ لَهَا بِهِ . فَيَا لَهُ مِنْ جُودٍ مَا أَقْبَحَهُ . وَسَمَاحَةٍ مَا أَسْفَهَ صَاحِبَهَا . وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .