فصل
قال وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : . وهو قبض اليد عن [ ص: 415 ] الدنيا ضبطا أو طلبا . وإسكات اللسان عنها مدحا أو ذما . والسلامة منها طلبا أو تركا . وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه . فقر الزهاد
الدنيا عند القوم : ما سوى الله تعالى من المال ، والجاه ، والصور ، والمراتب
واختلف المتكلمون فيها على قولين . حكاهما أبو الحسن الأشعري في مقالاته .
أحدهما : أنها اسم لمدة بقاء هذا العالم .
والثاني : أنها اسم لما بين السماء والأرض . فما فوق السماء ليس من الدنيا . وما تحت الأرض ليس منها .
فعلى الأول : تكون الدنيا زمانا . وعلى الثاني : تكون مكانا .
ولما كان لها تعلق بالجوارح والقلب واللسان ، كان حقيقة الفقر : تعطيل هذه الثلاثة عن تعلقها بها وسلبها منها . فلذلك قال قبض اليد عن الدنيا ضبطا أو طلبا .
يعني يقبض يده عن إمساكها إذا حصلت له . فإذا قبض يده عن الإمساك جاد بها . وإن كانت غير حاصلة له كف يده عن طلبها . فلا يطلب معدومها . ولا يبخل بموجودها .
وأما تعطيلها عن اللسان :
فهو أن لا يمدحها ولا يذمها . فإن اشتغاله بمدحها أو ذمها دليل على محبتها ورغبته فيها . فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره . وإنما اشتغل بذمها حيث فاتته . كمن طلب العنقود فلم يصل إليه ، فقال : هو حامض . ولا يتصدى لذم الدنيا إلا راغب محب مفارق . فالواصل مادح . والمفارق ذام .
وأما تعطيل القلب منها فبالسلامة من آفات طلبها وتركها . فإن لتركها آفات . ولطلبها آفات . والفقر سلامة القلب من آفات الطلب والترك . بحيث لا يحجبه عن ربه بوجه من الوجوه الظاهرة والباطنة . لا في طلبها وأخذها ولا في تركها والرغبة عنها .
فإن قلت : عرفت الآفة في أخذها وطلبها . فما وجه الآفة في تركها والرغبة عنها ؟
قلت : من وجوه شتى :
[ ص: 416 ] أحدها : أنه إذا تركها - وهو بشر لا ملك - تعلق قلبه بما يقيمه ويقيته ويعيشه . وما هو محتاج إليه . فيبقى في مجاهدة شديدة مع نفسه لترك معلومها وحظها من الدنيا . وهذه قلة فقه في الطريق ، بل الفقيه العارف : يردها عنه بلقمة . كما يرد الكلب إذا نبح عليه بكسرة . ولا يقطع زمانه بمجاهدته ومدافعته ، بل أعطها حظها ، وطالبها بما عليها من الحق .
هذه طريقة الرسل صلى الله عليهم وسلم . وهي طريقة العارفين من أرباب السلوك . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . إن لنفسك عليك حقا . ولربك عليك حقا . ولزوجك عليك حقا . ولضيفك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه
والعارف البصير يجعل عوض مجاهدته لنفسه في ترك شهوة مباحة : مجاهدته لأعداء الله من شياطين الإنس والجن ، وقطاع الطريق على القلوب . كأهل البدع من بني العلم ، وبني الإرادة ، ويستفرغ قواه في حربهم ومجاهدتهم . ويتقوى على حربهم بإعطاء النفس حقها من المباح . ولا يشتغل بها .
ومن آفات الترك : تطلعه إلى ما في أيدي الناس إذا مسته الحاجة إلى ما تركه ، فاستدامتها كان أنفع له من هذا الترك .
ومن آفات تركها ، وعدم أخذها : ما يداخله من الكبر والعجب والزهو . وهذا يقابل الزهد فيها وتركها . كما أن كسرة الآخذ وذلته وتواضعه : يقابل الآخذ التارك . ففي الأخذ آفات . وفي الترك آفات .
فالفقر الصحيح : السلامة من آفات الأخذ والترك . وهذا لا يحصل إلا بفقه في الفقر .
قوله رحمه الله : فهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه .
يعني تكلم فيه أرباب السلوك . وفضلوه ومدحوه .
[ ص: 417 ]