فصل
قال السكينة الثانية : هي . ليست هي شيئا يملك . إنما هي شيء من لطائف صنع الحق . تلقي على لسان المحدث الحكمة كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء . وتنطق بنكت الحقائق مع ترويح الأسرار ، وكشف الشبه . التي تنطق على لسان المحدثين
والسكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها . وسكنت إليها الجوارح . وخشعت ، واكتسبت الوقار ، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة ، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش ، واللغو والهجر ، وكل باطل ، قال رضي الله عنهما : كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان ابن عباس عمر وقلبه .
وكثيرا ما ينطق صاحب السكينة بكلام لم يكن عن فكرة منه ، ولا روية ولا هبة ، ويستغربه هو من نفسه . كما يستغرب السامع له . وربما لا يعلم بعد انقضائه بما صدر منه .
[ ص: 474 ] وأكثر ما يكون : هذا عند الحاجة . وصدق الرغبة من السائل ، والمجالس ، وصدق الرغبة منه : هو إلى الله ، والإسراع بقلبه إلى بين يديه ، وحضرته ، مع تجرده من الأهواء ، وتجريده النصيحة لله ولرسوله ، ولعباده المؤمنين ، وإزالة نفسه من البين .
ومن جرب هذا عرف منفعته وعظمها . وساء ظنه بما يحسن به الغافلون ظنونهم من كثير من كلام الناس .
قوله : وليست شيئا يملك
يعني هي موهبة من الله تعالى ليست بسببية ولا كسبية . وليست كالسكينة التي كانت في التابوت
تنقل معهم كيف شاءوا .
وقوله : تلقي على لسان المحدث الحكمة أي تجري الصواب على لسانه .
وقوله : كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء عليهم السلام .
يعني : أنها بواسطة الملائكة . بحيث تلقي في قلوب أربابها الحكمة عنهم والطمأنينة والصواب . كما أن الأنبياء تتلقى الوحي عن الله بواسطة الملائكة . ولكن ما للأنبياء مختص بهم . ولا يشاركهم فيه غيرهم . وهو نوع آخر .
وقوله : تنطق المحدثين بنكت الحقائق ، مع ترويج الأسرار وكشف الشبه
قد تقدم في أول الكتاب : ذكر مرتبة المحدث ، وأن هذا التحديث من مراتب الهداية العشرة ، وأن المحدث هو الذي يحدث في سره بالشيء ، فيكون كما يحدث به . والحقائق هي حقائق الإيمان والسلوك . ونكتها عيونها ومواضع الإشارات منها . ولا ريب أن تلك توجب للأسرار روحا تحيا به وتتنعم . وتكشف عنها شبهات لا يكشفها المتكلمون ولا الأصوليون . فتسكن الأرواح والقلوب إليها . ولهذا سميت سكينة ومن لم يفز من الله بذلك لم تنكشف عنه شبهاته . فإنها لا يكشفها إلا سكينة الإيمان واليقين .