فصل  
قال : الدرجة الثالثة :  طمأنينة شهود الحضرة إلى اللطف . وطمأنينة الجمع إلى البقاء . وطمأنينة المقام إلى نور الأزل      .  
 [ ص: 485 ] هذه الدرجة الثالثة تتعلق بالفناء والبقاء ، فالواصل إلى شهود الحضرة : مطمئن إلى لطف الله . وحضرة الجمع يريدون بها الشهود الذاتي .  
فإن الشهود عندهم مراتب بحسب تعلقه . فشهود الأفعال : أول مراتب الشهود . ثم فوقه : شهود الأسماء والصفات . ثم فوقه : شهود الذات الجامعة إلى الأفعال والأسماء والصفات . والتجلي عند القوم : بحسب هذه الشهود الثلاثة .  
فأصحاب تجلي الأفعال : مشهدهم توحيد الربوبية . وأصحاب تجلي الأسماء والصفات : مشهدهم توحيد الإلهية : وأصحاب تجلي الذات : يغنيهم به عنهم .  
وقد يعرض لبعضهم بحسب قوة الوارد وضعف المحل عجز عن القيام والحركة . فربما عطل بعض الفروض ، وهذا له حكم أمثاله من أهل العجز والتفريط ، والكاملون منهم قد يفترون في تلك الحال عن الأعمال الشاقة . ويقتصرون على الفرائض وسننها وحقوقها . ولا يقعد بهم ذلك الشهود والتجلي عنها . ولا يؤثرون عليه شيئا من النوافل والحركات التي لم تعرض عليهم ألبتة . وذلك في طريقهم رجوع وانقطاع .  
وأكمل من هؤلاء : من يصحبه ذلك في حال حركاته ونوافله . فلا يعطل ذرة من أوراده . والله سبحانه قد فاوت بين قوى القلوب أشد من تفاوت قوى الأبدان . وفي كل شيء له آية . وصاحب هذا المقام آية من آيات الله لأولي الألباب والبصائر .  
والمقصود : أنه لولا طمأنينته إلى لطف الله لمحقه شهود الحضرة وأفناه جملة . فقد خر موسى صعقا لما تجلى ربه للجبل . وتدكدك الجبل وساخ في الأرض من تجليه سبحانه .  
هذا ولا يتوهم متوهم أن الحاصل في الدنيا للبشر كذلك ، ولا قريب منه أبدا . وإنما هي المعارف ، واستيلاء مقام الإحسان على القلب فقط .  
وإياك وترهات القوم ، وخيالاتهم ورعوناتهم ، وإن سموك محجوبا ، فقل : اللهم زدني من هذا الحجاب الذي ما وراءه إلا الخيالات والترهات والشطحات . فكليم الرحمن وحده مع هذا لم تتجل الذات له ، وأراه ربه تعالى أنه لا يثبت لتجلي ذاته ، لما أشهده من حال الجبل ، وخر الكليم صعقا مغشيا عليه ، لما رأى ما رأى من حال الجبل عند تجلي ربه له . ولم يكن تجليا مطلقا .  قال  الضحاك     : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور     .  وقال   عبد الله بن سلام  رضي الله عنه و   كعب الأحبار     : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط حتى صار دكا     .  
وقال   السدي     : ما تجلى إلا قدر الخنصر     .  
 [ ص: 486 ] وفي مستدرك  الحاكم  من حديث   ثابت البناني  عن  أنس  رضي الله عنه :  أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ، وقال : هكذا - ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر - فساخ الجبل     . وإسناده على شرط  مسلم     . ولما حدث به  حميد  عن  ثابت  استعظمه بعض أصحابه وقال : تحدث بهذا ؟ فضرب بيده في صدره . وقال : يحدث به  ثابت  عن  أنس  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتنكره أنت ، ولا أحدث به ؟  
فإذا شهد لك المخدوعون بأنك محجوب عن ترهاتهم وخيالاتهم ، فتلك الشهادة لك بالاستقامة . فلا تستوحش منها . وبالله التوفيق . وهو المستعان .  
				
						
						
