باب الوقت . قال الله تعالى ثم جئت على قدر ياموسى الوقت اسم لظرف الكون . وهو اسم في هذا الباب لثلاثة معان ، على ثلاث درجات . المعنى الأول : حين وجد صادق ، لإيناس ضياء فضل جذبه صفاء رجاء ، أو لعصمة جذبها [ ص: 123 ] صدق خوف . أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة .
وجه استشهاده بالآية : أن الله سبحانه قدر مجيء موسى أحوج ما كان الوقت إليه . فإن العرب تقول : جاء فلان على قدر . إذا جاء وقت الحاجة إليه . قال جرير :
نال الخلافة إذ كانت على قدر كما أتى ربه موسى على قدر
وقال مجاهد : على موعد . وهذا فيه نظر . لأنه لم يسبق بين الله سبحانه وبين موسى موعد للمجيء ، حتى يقال : إنه أتى على ذلك الموعد .ولكن وجه هذا : أن المعنى : جئت على الموعد الذي وعدنا أن ننجزه ، والقدر الذي قدرنا أن يكون في وقته ، وهذا كقوله تعالى إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا لأن الله سبحانه وتعالى وعد بإرسال نبي في آخر الزمان يملأ الأرض نورا وهدى . فلما سمعوا القرآن : علموا أن الله أنجز ذلك الوعد الذي وعد به .
واستشهاده بهذه الآية يدل على محله من العلم . لأن الشيء إذا وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه : كان أحسن وأنفع وأجدى . كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه . وكما إذا وقع الفرج في الوقت الذي يليق به .
ومن تأمل أقدار الرب تعالى ، وجريانها في الخلق : علم أنها واقعة في أليق الأوقات بها .
فبعث الله سبحانه موسى : أحوج ما كان الناس إلى بعثته . وبعث عيسى كذلك . وبعث محمدا صلى الله عليه وعليهم أجمعين : أحوج ما كان أهل الأرض إلى إرساله . فهكذا وقت العبد مع الله يعمره بأنفع الأشياء له : أحوج ما كان إلى عمارته .
قوله " الوقت : ظرف الكون " الوقت : عبارة عن مقاربة حادث لحادث عند [ ص: 124 ] المتكلمين ، فهو نسبة بين حادثين . فقوله " ظرف الكون " أي وعاء التكوين . فهو الوعاء الزماني الذي يقع فيه التكوين . كما أن ظرف المكان : هو الوعاء المكاني ، الذي يحصل فيه الجسم .
ولكن الوقت في اصطلاح القوم أخص من ذلك .
قال أبو علي الدقاق : الوقت ما أنت فيه . فإن كنت في الدنيا فوقتك الدنيا وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى . وإن كنت بالسرور فوقتك السرور . وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن .
يريد : أن الوقت ما كان الغالب على الإنسان من حاله .
وقد يريد : أن الوقت ما بين الزمانين الماضي والمستقبل . وهو اصطلاح أكثر الطائفة . ولهذا يقولون : الصوفي والفقير ابن وقته .
يريدون : أن همته لا تتعدى وظيفة عمارته بما هو أولى الأشياء به ، وأنفعها له . فهو قائم بما هو مطالب به في الحين والساعة الراهنة . فهو لا يهتم بماضي وقته وآتيه ، بل يهتم بوقته الذي هو فيه . فإن وكلما حضر وقت اشتغل عنه بالطرفين . فتصير أوقاته كلها فواتا . الاشتغال بالوقت الماضي والمستقبل يضيع الوقت الحاضر ،
قال الشافعي - رضي الله عنه - : صحبت الصوفية . فما انتفعت منهم إلا بكلمتين ، [ ص: 125 ] سمعتهم يقولون : الوقت سيف . فإن قطعته وإلا قطعك . ونفسك إن لم تشغلها بالحق ، وإلا شغلتك بالباطل .
قلت : يا لهما من كلمتين ، ما أنفعهما وأجمعهما ، وأدلهما على علو همة قائلهما ، ويقظته . ويكفي في هذا ثناء الشافعي على طائفة هذا قدر كلماتهم .
وقد يريدون بالوقت : ما هو أخص من هذا كله . وهو ما يصادفهم في تصريف الحق لهم . دون ما يختارونه لأنفسهم . ويقولون : فلان بحكم الوقت . أي مستسلم لما يأتي من عند الله من غير اختيار .
وهذا يحسن في حال ، ويحرم في حال . وينقص صاحبه في حال . فيحسن في كل موضع ليس لله على العبد فيه أمر ولا نهي . بل في موضع جريان الحكم الكوني الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي ، كالفقر والمرض ، والغربة والجوع ، والألم والحر والبرد ، ونحو ذلك .
ويحرم في الحال التي يجري عليه فيها الأمر والنهي والقيام بحقوق الشرع . فإن التضييع لذلك والاستسلام ، والاسترسال مع القدر : انسلاخ من الدين بالكلية . وينقص صاحبه في حال تقتضي قياما بالنوافل ، وأنواع البر والطاعة .
وإذا أراد الله بالعبد خيرا : أعانه بالوقت . وجعل وقته مساعدا له . وإذا أراد به شرا : جعل وقته عليه ، وناكده وقته . فكلما أراد التأهب للمسير : لم يساعده الوقت . والأول : كلما همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده .
وقد قسم بعضهم الصوفية أربعة أقسام : أصحاب السوابق ، وأصحاب العواقب ، وأصحاب الوقت ، وأصحاب الحق . قال :
فأما : فقلوبهم أبدا فيما سبق لهم من الله . لعلمهم أن الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد . أصحاب السوابق
ويقولون : من أقصته السوابق لم تدنه الوسائل . ففكرهم في هذا أبدا . ومع ذلك : فهم يجدون في القيام بالأوامر ، واجتناب النواهي ، والتقرب إلى الله بأنواع القرب ، غير واثقين بها ، ولا ملتفتين إليها ، ويقول قائلهم :
من أين أرضيك إلا أن توفقني هيهات هيهات ما التوفيق من قبلي
إن لم يكن لي في المقدور سابقة فليس ينفع ما قدمت من عملي
وأما : فهم متفكرون فيما يختم به أمرهم . فإن الأمور [ ص: 126 ] بأواخرها . والأعمال بخواتيمها ، والعاقبة مستورة . كما قيل : أصحاب العواقب
لا يغرنك صفا الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات
فكم من مريد كبا به جواد عزمه فخر صريعا لليدين وللفم
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
تعجبين من سقمي صحتي هي العجب
خذ من الألف واحدا واطرح الكل من بعده
وأما : فلم يشتغلوا بالسوابق ، ولا بالعواقب . بل اشتغلوا بمراعاة الوقت ، وما يلزمهم من أحكامه . وقالوا : العارف ابن وقته . لا ماضي له ولا مستقبل . أصحاب الوقت
ورأى بعضهم - رضي الله عنه - في منامه . فقال له : أوصني . فقال له : كن ابن وقتك . الصديق
وأما : فهم مع صاحب الوقت والزمان ، ومالكهما ومدبرهما . مأخوذون بشهوده عن مشاهدة الأوقات . لا يتفرغون لمراعاة وقت ولا زمان . كما قيل : أصحاب الحق
لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلى
[ ص: 127 ] إن للعاشقين عن قصر اللي ل ، وعن طوله من العشق شغلا
قال الجنيد : دخلت على السري يوما . فقلت له : كيف أصبحت ؟ فأنشأ يقول :
ما في النهار ولا في الليل لي فرج فلا أبالي أطال الليل أم قصرا
يشير إلى أنه غير متطلع إلى الأوقات . بل هو مع الذي قدر الليل والنهار .