فصل منزلة المحاسبة
فلنرجع إلى ذكر منازل " إياك نعبد وإياك نستعين " التي لا يكون العبد من أهلها حتى ينزل منازلها .
فذكرنا منها اليقظة والبصيرة والفكرة والعزم .
وهذه المنازل الأربعة لسائر المنازل كالأساس للبنيان ، وعليها مدار منازل السفر إلى الله ، ولا يتصور السفر إليه بدون نزولها البتة ، وهي على ترتيب السير الحسي ، فإن المقيم في وطنه لا يتأتى منه السفر حتى يستيقظ من غفلته عن السفر ، ثم يتبصر في أمر سفره وخطره ، وما فيه من المنفعة له والمصلحة ، ثم يفكر في أهبة السفر والتزود وإعداد عدته ، ثم يعزم عليه ، فإذا عزم عليه وأجمع قصده انتقل إلى منزلة المحاسبة وهي التمييز بين ما له وعليه ، فيستصحب ما له ، ويؤدي ما عليه ، لأنه مسافر سفر من لا يعود .
ومن منزلة المحاسبة يصح له نزول منزلة التوبة لأنه إذا حاسب نفسه ، عرف ما عليه من الحق ، فخرج منه ، وتنصل منه إلى صاحبه ، وهي حقيقة التوبة فكان تقديم المحاسبة عليها لذلك أولى .
ولتأخيرها عنها وجه أيضا ، وهو أن المحاسبة لا تكون إلا بعد تصحيح التوبة .
والتحقيق أن التوبة بين محاسبتين ، محاسبة قبلها ، تقتضي وجوبها ، ومحاسبة بعدها ، تقتضي حفظها ، فالتوبة محفوفة بمحاسبتين ، وقد دل على المحاسبة قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد فأمر سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغد ، وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك ، والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح ؟ .
والمقصود من هذا النظر ما يوجبه ويقتضيه ، من كمال الاستعداد ليوم المعاد ، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله ، ويبيض وجهه عند الله ، وقال رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتزينوا [ ص: 188 ] للعرض الأكبر عمر بن الخطاب يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية أو قال : على من لا تخفى عليه أعمالكم .