أحدها : أن تقايس بين نعمته وجنايتك .
يعني تقايس بين ما من الله وما منك ، فحينئذ يظهر لك التفاوت ، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته ، أو الهلاك والعطب .
وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد ، ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها ، وعظمة جلال الربوبية ، وتفرد الرب بالكمال والإفضال ، وأن كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل ، وأنت قبل هذه المقايسة جاهل بحقيقة نفسك ، وبربوبية فاطرها وخالقها ، فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر ، وأساس كل نقص ، وأن حدها الجاهلة الظالمة ، وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زكت أبدا ، ولولا هداه ما اهتدت ، ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصول إلى خير البتة ، وأن حصول ذلك لها من بارئها وفاطرها ، وتوقفه عليه كتوقف وجودها على إيجاده ، فكما أنها ليس لها من ذاتها وجود ، فكذلك ليس لها من ذاتها كمال الوجود ، فليس لها من ذاتها إلا العدم - عدم الذات ، وعدم الكمال - فهناك تقول حقا " " . أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي
ثم تقايس بين الحسنات والسيئات ، فتعلم بهذه المقايسة أيهما أكثر وأرجح قدرا وصفة .
وهذه المقايسة الثانية مقايسة بين أفعالك وما منك خاصة .
قال : وهذه المقايسة تشق على من ليس له ثلاثة أشياء : نور الحكمة ، وسوء الظن بالنفس ، وتمييز النعمة من الفتنة .
[ ص: 189 ] يعني أن هذه المقايسة والمحاسبة تتوقف على نور الحكمة ، وهو النور الذي نور الله به قلوب أتباع الرسل ، وهو نور الحكمة ، فبقدره ترى التفاوت ، وتتمكن من المحاسبة .
ونور الحكمة هاهنا : هو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والضار والنافع ، والكامل والناقص ، والخير والشر ، ويبصر به مراتب الأعمال ، راجحها ومرجوحها ، ومقبولها ومردودها ، وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم .
وأما سوء الظن بالنفس فإنما احتاج إليه ؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبس عليه ، فيرى المساوئ محاسن ، والعيوب كمالا ، فإن المحب يرى مساوئ محبوبه وعيوبه كذلك .
فعين الرضى عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها ، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه .وأما تمييز النعمة من الفتنة : فليفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف ، ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية ، وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج ، فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر ، مفتون بثناء الجهال عليه ، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه ! وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح ، ذلك مبلغهم من العلم .
فإذا كملت هذه الثلاثة فيه عرف حينئذ أن ما كان من نعم الله عليه بجمعه على الله فهو نعمة حقيقة ، وما فرقه عنه وأخذه منه فهو البلاء في صورة النعمة ، والمحنة في صورة المنحة ، فليحذر فإنما هو مستدرج ، ويميز بذلك أيضا بين المنة والحجة ، فكم تلتبس إحداهما عليه بالأخرى ! .
فإن العبد بين منة من الله عليه ، وحجة منه عليه ، ولا ينفك عنهما ، فالحكم الديني متضمن لمنته وحجته ، قال الله تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم وقال بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان وقال فلله الحجة البالغة .
[ ص: 190 ] والحكم الكوني أيضا متضمن لمنته وحجته ، فإذا حكم له كونا حكما مصحوبا باتصال الحكم الديني به فهو منة عليه ، وإن لم يصحبه الديني فهو حجة منه عليه .
وكذلك حكمه الديني إذا اتصل به حكمه الكوني ، فتوفيقه للقيام به منة منه عليه ، وإن تجرد عن حكمه الكوني صار حجة منه عليه ، فالمنة باقتران أحد الحكمين بصاحبه ، والحجة في تجرد أحدهما عن الآخر ، فكل علم صحبه عمل يرضي الله سبحانه فهو منة ، وإلا فهو حجة .
وكل قوة ظاهرة وباطنة صحبها تنفيذ لمرضاته وأوامره فهي منة ، وإلا فهي حجة .
وكل حال صحبه تأثير في نصرة دينه ، والدعوة إليه فهو منة منه ، وإلا فهو حجة .
وكل مال اقترن به إنفاق في سبيل الله وطاعته ، لا لطلب الجزاء ولا الشكور ، فهو منة من الله عليه ، وإلا فهو حجة .
وكل فراغ اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو منة عليه ، وإلا فهو حجة .
وكل قبول في الناس ، وتعظيم ومحبة له ، اتصل به خضوع للرب ، وذل وانكسار ، ومعرفة بعيب النفس والعمل ، وبذل النصيحة للخلق فهو منة ، وإلا فهو حجة .
وكل بصيرة وموعظة ، وتذكير وتعريف من تعريفات الحق سبحانه إلى العبد ، اتصل به عبرة ومزيد في العقل ، ومعرفة في الإيمان فهي منة ، وإلا فهي حجة .
وكل حال مع الله تعالى ، أو مقام اتصل به السير إلى الله ، وإيثار مراده على مراد العبد ، فهو منة من الله ، وإن صحبه الوقوف عنده والرضى به ، وإيثار مقتضاه ، من لذة النفس به وطمأنينتها إليها ، وركونها إليه ، فهو حجة من الله عليه .
فليتأمل العبد هذا الموضع العظيم الخطر ، ويميز بين مواقع المنن والمحن ، والحجج والنعم ، فما أكثر ما يلتبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .