فصل
هذا إذا نظرت إلى تعلق الفرح الإلهي بالإحسان والجود والبر .
وأما إن لاحظت تعلقه بإلهيته وكونه معبودا فذاك مشهد أجل من هذا وأعظم منه ، وإنما يشهده خواص المحبين .
فإن ، وهذا هو الحق الذي خلقت به السماوات والأرض ، وهو غاية الخلق والأمر ، ونفيه - كما يقول أعداؤه - هو الباطل ، والعبث الذي نزه الله نفسه عنه ، وهو الله سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لمحبته والخضوع له وطاعته السدى الذي نزه نفسه عنه أن يترك الإنسان عليه ، وهو سبحانه يحب أن يعبد ويطاع ولا يعبأ بخلقه شيئا لولا محبتهم له ، وطاعتهم له ، ودعاؤهم له .
[ ص: 231 ] وقد أنكر على من زعم أنه خلقهم لغير ذلك ، وأنهم لو خلقوا لغير عبادته وتوحيده وطاعته لكان خلقهم عبثا وباطلا وسدى ، وذلك مما يتعالى عنه أحكم الحاكمين ، والإله الحق ، فإذا خرج العبد عما خلق له من الطاعة والعبودية ، فقد خرج عن أحب الأشياء إليه ، وعن الغاية التي لأجلها خلقت الخليقة ، وصار كأنه خلق عبثا لغير شيء ، إذ لم تخرج أرضه البذر الذي وضع فيها ، بل قلبته شوكا ودغلا ، فإذا راجع ما خلق له وأوجد لأجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحب الأشياء إلى خالقه وفاطره ، ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خلق لأجلها ، وخرج عن معنى العبث والسدى والباطل ، فاشتدت محبة الرب له ، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، فأوجبت هذه المحبة فرحا كأعظم ما يقدر من الفرح ، ولو كان في الفرح المشهود في هذا العالم نوع أعظم من هذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لذكره ، ولكن لا فرحة أعظم من فرحة هذا الواجد الفاقد لمادة حياته وبلاغه في سفره ، بعد إياسه من أسباب الحياة بفقده ، وهذا كشدة محبته لتوبة التائب المحب إذا اشتدت محبته للشيء وغاب عنه ثم وجده وصار طوع يده ، فلا فرحة أعظم من فرحته به .
فما الظن بمحبوب لك تحبه حبا شديدا ، أسره عدوك ، وحال بينك وبينه ، وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ، ويعرضه لأنواع الهلاك ، وأنت أولى به منه ، وهو غرسك وتربيتك ، ثم إنه انفلت من عدوه ، ووافاك على غير ميعاد ، فلم يفجأك إلا وهو على بابك ، يتملقك ويترضاك ويستعينك ، ويمرغ خديه على تراب أعتابك ، فكيف يكون فرحك به ، وقد اختصصته لنفسك ، ورضيته لقربك ، وآثرته على سواه ؟
هذا ، ولست الذي أوجدته وخلقته ، وأسبغت عليه نعمك ، والله عز وجل هو الذي أوجد عبده ، وخلقه وكونه ، وأسبغ عليه نعمه ، وهو يحب أن يتمها عليه ، فيصير مظهرا لنعمه ، قابلا لها ، شاكرا لها ، محبا لوليها ، مطيعا له عابدا له ، معاديا لعدوه ، مبغضا له عاصيا له ، والله تعالى يحب من عبده معاداة عدوه ، ومعصيته ومخالفته ، كما يحب أن يتولى الله مولاه سبحانه ويطيعه ويعبده ، فتنضاف محبته لعبادته وطاعته والإنابة إليه ، إلى محبته لعداوة عدوه ، ومعصيته ومخالفته ، فتشتد المحبة منه سبحانه ، مع حصول محبوبه ، وهذا هو حقيقة الفرح .
وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة " عبدي الذي سرت به نفسي " وهذا لكمال محبته له ، جعله مما تسر نفسه به سبحانه .
ومن هذا ضحكه سبحانه من عبده ، حين يأتي من عبوديته بأعظم ما يحبه ، [ ص: 232 ] ، كما يضحك من عبده إذا ثار عن وطائه وفراشه ومضاجعة حبيبه إلى خدمته ، يتلو آياته ويتملقه . فيضحك سبحانه فرحا ورضا
ويضحك من رجل هرب أصحابه عن العدو ، فأقبل إليهم ، وباع نفسه لله ولقاهم نحره ، حتى قتل في محبته ورضاه .
ويضحك إلى من أخفى الصدقة عن أصحابه لسائل اعترضهم فلم يعطوه ، فتخلف بأعقابهم وأعطاه سرا ، حيث لا يراه إلا الله الذي أعطاه ، فهذا الضحك منه حبا له ، وفرحا به ، وكذلك الشهيد حين يلقاه يوم القيامة ، فيضحك إليه فرحا به وبقدومه عليه .
وليس في إثبات هذه الصفات محذور البتة ، فإنه فرح ليس كمثله شيء ، وضحك ليس كمثله شيء ، وحكمه حكم رضاه ومحبته ، وإرادته وسائر صفاته ، فالباب باب واحد ، لا تمثيل ولا تعطيل .
وليس ما يلزم به المعطل المثبت إلا ظلم محض ، وتناقض وتلاعب ، فإن هذا لو كان لازما للزم رحمته وإرادته ومشيئته وسمعه وبصره ، وعلمه وسائر صفاته ، فكيف جاء هذا اللزوم لهذه الصفة دون الأخرى ؟ وهل يجد ذو عقل إلى الفرق سبيلا ؟ فما ثم إلا التعطيل المحض المطلق ، أو الإثبات المطلق لكل ما ورد به النص ، والتناقض لا يرضاه المحصلون .