( فصل ) :
وأما بيان ما يحظره الإحرام وما لا يحظره ، وبيان ما يجب بفعل المحظور ، فجملة الكلام فيه أن في الأصل نوعان . محظورات الإحرام
نوع لا يوجب فساد الحج ، ونوع يوجب فساده ، أما الذي لا يوجب فساد الحج فأنواع : .
بعضها يرجع إلى اللباس ، وبعضها يرجع إلى الطيب وما يجري مجراه من إزالة الشعث ، وقضاء التفث ، وبعضها يرجع إلى توابع الجماع ، وبعضها يرجع إلى الصيد أما الأول : فالمحرم لا يلبس المخيط جملة ، ولا قميصا ولا قباء ، ولا جبة ، ولا سراويل ، ولا عمامة ، ولا قلنسوة ، ولا يلبس خفين إلا أن يجد نعلين ، فلا بأس أن يقطعهما أسفل الكعبين فيلبسهما ، والأصل فيه ما روي عن أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال : { عبد الله بن عمر } فإن قيل : في هذا الحديث ضرب إشكال ; لأن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبس المحرم ؟ فقال : لا يلبس كذا وكذا من المخيط ، فسئل عن شيء فعدل عن محل السؤال ، وأجاب عن شيء آخر لم يسأل عنه ، وهذا محيد عن الجواب ، أو يوجب أن يكون إثبات الحكم في مذكور دليلا على أن الحكم في غيره بخلافه ، وهذا خلاف المذهب فالجواب عنه من وجوه أحدها : أنه يحتمل أن يكون السؤال عما لا يلبسه المحرم ، وأضمر . لا يلبس القميص ، ولا العمائم ، ولا السراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين ، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا يلبس من الثياب شيئا مسه الزعفران ، ولا الورس ، ولا تنتقب المرأة ، ولا تلبس القفازين
( لا ) في محل السؤال ; لأن لا تارة تزاد في الكلام ، وتارة تحذف عنه قال الله تعالى { يبين الله لكم أن تضلوا } أي : لا تضلوا فكان معنى الكلام أنه سئل عما لا يلبسه المحرم فقال : لا يلبس المحرم كذا وكذا فكان الجواب مطابقا للسؤال .
والثاني : يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 184 ] علم غرض السائل ومراده أنه طلب منه بيان ما لا يلبسه المحرم بعد إحرامه ، إما بقرينة حاله أو بدليل آخر ، أو بالوحي فأجاب عما في ضميره من غرضه ومقصوده ، ونظيره قوله تعالى خبرا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام { رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } فأجابه الله عز وجل بقوله { ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره } سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربه - عز وجل - أن يرزق من آمن من أهل مكة من الثمرات .
فأجابه تعالى أنه يرزق الكافر أيضا ، لما علم أن مراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من سؤاله أن يرزق ذلك المؤمن منهم دون الكافر ، فأجابه الله تعالى عما كان في ضميره كذا هذا .
والثالث : أنه لما خص المخيط أنه لا يلبسه المحرم بعد تقدم السؤال عما يلبسه دل أن الحكم في غير المخيط بخلافه ، والتنصيص على حكم في مذكور إنما لا يدل على تخصيص ذلك الحكم به بشرائط ثلاثة أحدها : أن لا يكون فيه حيد عن الجواب ممن لا يجوز عليه الحيد .
فأما إذا كان فإنه يدل عليه صيانة لمنصب النبي صلى الله عليه وسلم عن الحيد عن الجواب عن السؤال .
والثاني : من المحتمل أن يكون حكم غير المذكور خلاف حكم المذكور ، وههنا لا يحتمل ; لأنه يقتضي أن لا يلبس المحرم أصلا ، وفيه تعريضه للهلاك بالحر ، أو البرد ، والعقل يمنع من ذلك فكان المنع من أحد النوعين في مثله إطلاقا للنوع الآخر .
ونظيره قوله تعالى { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } إن جعل الليل للسكون يدل على جعل النهار للكسب ، وطلب المعاش إذ لا بد من القوت للبقاء ، وكان جعل الليل للسكون تعيينا للنهار لطلب المعاش .
والثالث : أن يكون ذلك في غير الأمر والنهي ، فأما في الأمر والنهي فيدل عليه لما قد صح من مذهب أصحابنا أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، والنهي عن الشيء أمر بضده .
والتنصيص ههنا في محل النهي فكان ذلك دليلا على أن الحكم في غير المخيط بخلافه والله - عز وجل - الموفق ولأن لبس المخيط من باب الارتفاق بمرافق المقيمين ، والترفه في اللبس ، وحال المحرم ينافيه ، ولأن الحاج في حال إحرامه يريد أن يتوسل بسوء حاله إلى مولاه يستعطف نظره ومرحمته ، بمنزلة العبد المسخوط عليه في الشاهد أنه يتعرض بسوء حاله لعطف سيده ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : { المحرم الأشعث الأغبر } وإنما يمنع المحرم من لبس المخيط إذا لبسه على الوجه المعتاد .
فأما إذا لبسه لا على الوجه المعتاد فلا يمنع منه ، بأن اتشح بالقميص أو اتزر بالسراويل ; لأن معنى الارتفاق بمرافق المقيمين ، والترفه في اللبس لا يحصل به .
ولأن لبس القميص والسراويل على هذا الوجه في معنى الارتداء ، والاتزار ; لأنه يحتاج في حفظه إلى تكلف ، كما يحتاج إلى التكلف في حفظ الرداء ، والإزار وذا غير ممنوع عنه .