الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) بيان سبب صيرورة الماء مستعملا ، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف الماء إنما يصير مستعملا بأحد أمرين : إما بإزالة الحدث ، أو بإقامة القربة وعند محمد لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة ، وعند زفر والشافعي لا يصير مستعملا إلا بإزالة الحدث وهذا الاختلاف لم ينقل عنهم نصا لكن مسائلهم تدل عليه ، والصحيح قول أبي حنيفة وأبي يوسف ; لما ذكرنا من زوال المانع من الصلاة إلى الماء واستخباث الطبيعة إياه في الفصلين جميعا إذا عرفنا هذا ، فنقول : إذا توضأ بنية إقامة القربة نحو الصلاة المعهودة وصلاة الجنازة ودخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن ونحوها ، فإن كان محدثا صار الماء مستعملا بلا خلاف ; لوجود السببين وهو إزالة الحدث واقامة القربة جميعا ، وإن لم يكن محدثا يصير مستعملا عند أصحابنا الثلاثة ; لوجود إقامة القربة لكون الوضوء على الوضوء نورا على نور ، وعند زفر والشافعي لا يصير مستعملا ; لانعدام إزالة الحدث .

                                                                                                                                ولو توضأ أو اغتسل للتبرد فإن كان محدثا صار الماء مستعملا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والشافعي ; لوجود إزالة الحدث وعن محمد لا يصير مستعملا لعدم إقامة القربة ، وإن لم يكن محدثا لا يصير مستعملا بالاتفاق على اختلاف الأصول ، ولو توضأ بالماء المقيد كماء الورد ونحوه لا يصير مستعملا بالإجماع ; لأن التوضؤ به غير جائز ، فلم يوجد إزالة الحدث ولا إقامة القربة ، وكذا إذا غسل الأشياء الطاهرة من النبات والثمار والأواني والأحجار ونحوها ، أو غسل يده من الطين والوسخ ، وغسلت المرأة يدها من العجين أو الحناء ونحو ذلك ، لا يصير مستعملا ; لما قلنا ، ولو غسل يده للطعام أو من الطعام لقصد إقامة السنة صار الماء مستعملا ; لأن إقامة السنة قربة لقول النبي صلى الله عليه وسلم { الوضوء قبل الطعام بركة ، وبعده ينفي اللمم } ولو توضأ ثلاثا ثلاثا ، ثم زاد على ذلك فإن أراد بالزيادة ابتداء الوضوء صار الماء مستعملا ; لما قلنا ، وإن أراد الزيادة على الوضوء الأول اختلف المشايخ فيه فقال بعضهم : لا يصير مستعملا ; لأن الزيادة على الثلاث من باب التعدي بالنص وقال بعضهم : يصير مستعملا ; لأن الزيادة في معنى الوضوء على الوضوء فكانت قربة .

                                                                                                                                ولو أدخل جنب أو حائض أو محدث يده في الإناء قبل أن يغسلها وليس عليها قذر ، أو شرب الماء منه ، فقياس أصل أبي حنيفة وأبي يوسف أن يفسد ، وفي الاستحسان لا يفسد وجه القياس : أن الحدث زال عن يده بإدخالها في الماء وكذا عن شفته فصار مستعملا ، وجه الاستحسان : ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نغتسل من إناء واحد } وربما كانت تتنازع فيه الأيدي وروينا أيضا عن عائشة رضي الله عنها { أنها كانت تشرب من إناء وهي حائض ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب من ذلك الإناء ، وكان يتتبع مواضع فمها حبا لها } ; ولأن التحرز عن إصابة الحدث والجنابة والحيض غير ممكن ، وبالناس حاجة إلى الوضوء والاغتسال والشرب ، وكل واحد لا يملك الإناء ليغترف الماء من الإناء العظيم ، ولا كل أحد يملك أن يتخذ آنية على حدة للشرب فيحتاج إلى الاغتراف باليد والشرب من كل آنية ، فلو لم يسقط اعتبار نجاسة اليد والشفة ; لوقع الناس في الحرج ، حتى لو أدخل رجله فيه يفسد الماء ; لانعدام الحاجة إليه في الإناء ; ولو أدخلها في البئر لم يفسده ; كذا ذكر أبو يوسف في الأمالي ; لأنه يحتاج إلى ذلك في البئر لطلب الدلو فجعل عفوا ، ولو أدخل في الإناء أو البئر بعض جسده سوى اليد والرجل أفسده ; لأنه لا حاجة إليه .

                                                                                                                                وعلى هذا الأصل تخرج مسألة البئر إذا انغمس الجنب فيها لطلب الدلو لا بنية الاغتسال ، وليس على [ ص: 70 ] بدنه نجاسة حقيقية والجملة فيه أن الرجل المنغمس لا يخلو : إما أن يكون طاهرا ، أو لم يكن بأن كان على بدنه نجاسة حقيقية أو حكمية كالجنابة والحدث ، وكل وجه على وجهين إما أن ينغمس لطلب الدلو ، أو للتبرد ، أو للاغتسال ، وفي المسألة حكمان : حكم الماء الذي في البئر ، وحكم الداخل فيها ، فإن كان طاهرا - وانغمس لطلب الدلو أو للتبرد - لا يصير مستعملا بالإجماع ; لعدم إزالة الحدث وإقامة القربة ، وإن انغمس فيها للاغتسال صار الماء مستعملا عند أصحابنا الثلاثة ; لوجود إقامة القربة ، وعند زفر والشافعي لا يصير مستعملا ; لانعدام إزالة الحدث ، والرجل طاهر في الوجهين جميعا وإن لم يكن طاهرا ، فإن كان على بدنه نجاسة حقيقية وهو جنب أو لا فانغمس في ثلاثة آبار أو أكثر من ذلك ; لا يخرج من الأولى والثانية طاهرا بالإجماع ، ويخرج من الثالثة طاهرا عند أبي حنيفة ومحمد ، والمياه الثلاثة نجسة لكن نجاستها على التفاوت على ما ذكرنا .

                                                                                                                                وعند أبي يوسف المياه كلها نجسة ، والرجل نجس سواء انغمس لطلب الدلو أو التبرد أو الاغتسال ، وعندهما إن انغمس لطلب الدلو أو التبرد فالمياه باقية على حالها ، وإن كان الانغماس للاغتسال فالماء الرابع فصاعدا مستعمل ; لوجود إقامة القربة ، وإن كان على يده نجاسة حكمية فقط فإن أدخلها لطلب الدلو أو التبرد يخرج من الأولى طاهرا ، عند أبي حنيفة ومحمد هو الصحيح ; لزوال الجنابة بالانغماس مرة واحدة ، وعند أبي يوسف هو نجس ولا يخرج طاهرا أبدا .

                                                                                                                                وأما حكم المياه : فالماء الأول مستعمل عند أبي حنيفة ; لوجود إزالة الحدث ، والبواقي على حالها ; لانعدام ما يوجب الاستعمال أصلا وعند أبي يوسف ومحمد المياه كلها على حالها ، أما عند محمد فظاهر ; لأنه لم يوجد إقامة القربة بشيء منها وأما أبو يوسف فقد ترك أصله عند الضرورة على ما يذكر ، وروى بشر عنه أن المياه كلها نجسة ، وهو قياس مذهبه ، والحاصل أن عند أبي حنيفة ومحمد يطهر النجس بوروده على الماء القليل ، كما يطهر بورود الماء عليه بالصب سواء كان حقيقيا أو حكميا على البدن أو على غيره ، غير أن النجاسة الحقيقية لا تزول إلا بالملاقاة ثلاث مرات والحكمية تزول بالمرة الواحدة .

                                                                                                                                وعند أبي يوسف لا يطهر النجس عن البدن بوروده على الماء القليل الراكد قولا واحدا ، وله في الثوب قولان ، أما الكلام في النجاسة الحقيقية في الطرفين فسيأتي في بيان ما يقع به التطهير ، وأما النجاسة الحكمية فالكلام فيها على نحو الكلام في الحقيقة ، فأبو يوسف يقول : الأصل أن ملاقاة أول عضو المحدث الماء يوجب صيرورته مستعملا ، فكذا ملاقاة أول عضو الطاهر الماء على قصد إقامة القربة ، وإذا صار الماء مستعملا بأول الملاقاة لا تتحقق طهارة بقية الأعضاء بالماء المستعمل فيجب العمل بهذا الأصل ، إلا عند الضرورة كالجنب والمحدث إذا أدخل يده في الإناء لاغتراف الماء لا يصير مستعملا ، ولا يزول الحدث إلى الماء لمكان الضرورة ، وههنا ضرورة ; لحاجة الناس إلى إخراج الدلاء من الآبار فترك أصله لهذه الضرورة ; ولأن هذا الماء لو صار مستعملا إنما يصير مستعملا بإزالة الحدث ، ولو أزال الحدث لتنجس ، ولو تنجس لا يزيل الحدث ، وإذا لم يزل الحدث بقي طاهرا ، وإذا بقي طاهرا يزيل الحدث فيقع الدور فقطعنا الدور من الابتداء فقلنا : إنه لا يزيل الحدث عنه ، فبقي هو بحاله ، والماء على حاله وأبو حنيفة ومحمد يقولان : إن النجاسة تزول بورود الماء عليها ، فكذا بورودها على الماء ; لأن زوال النجاسة بواسطة الاتصال والملاقاة بين الطاهر والنجس موجودة في الحالين ، ولهذا ينجس الماء بعد الانفصال في الحالين جميعا في النجاسة الحقيقية ، إلا أن حالة الاتصال لا يعطى لها حكم النجاسة ، والاستعمال لضرورة إمكان التطهير ، والضرورة متحققة في الصب ، إذ كل واحد لا يقدر عليه على كل حال فامتنع ظهور حكمه في هذه الحالة ، ولا ضرورة بعد الانفصال فيظهر حكمه ، وعلى هذا إذا أدخل رأسه أو خفه أو جبيرته في الإناء وهو محدث ، قال أبو يوسف : يجزئه في المسح ولا يصير الماء مستعملا سواء نوى أو لم ينو ; لوجود أحد سببي الاستعمال وإنما كان ; لأن فرض المسح يتأدى بإصابة البلة إذ هو اسم للإصابة دون الإسالة ، فلم يزل شيء من الحدث إلى الماء الباقي في الإناء ، وإنما زال إلى البلة ، وكذا إقامة القربة تحصل بها فاقتصر حكم الاستعمال عليها .

                                                                                                                                وقال محمد : إن لم ينو المسح يجزئه ولا يصير الماء مستعملا ; لأنه لم توجد إقامة القربة فقد مسح بماء غير مستعمل فاجزأه ، وإن نوى المسح اختلف المشايخ على قوله قال بعضهم : [ ص: 71 ] لا يجزئه ويصير الماء مستعملا ; لأنه لما لاقى رأسه الماء على قصد إقامة القربة صيره مستعملا ، ولا يجوز المسح بالماء المستعمل ، والصحيح أنه يجوز ولا يصير الماء مستعملا بالملاقاة ; لأن الماء إنما يأخذ حكم الاستعمال بعد الانفصال فلم يكن مستعملا قبله فيجزئه المسح به جنب على يده قذر فأخذ الماء بفمه وصبه عليه ، روى المعلى عن أبي يوسف أنه لا يطهر ; لأنه صار مستعملا بإزالة الحدث عن الفم ، والماء المستعمل لا يزيل النجاسة بالإجماع ، وذكر محمد في الآثار أنه يطهر ; لأنه لم يقم به قربة فلم يصر مستعملا والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية