الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                أما الرجل فنقول : إذا مات رجل في سفر فإن كان معه رجال يغسله الرجل ، وإن كان معه نساء لا رجل فيهن ، فإن كان فيهن امرأته غسلته وكفنته وصلين عليه وتدفنه ، أما المرأة فتغسل زوجها لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لو استقبلنا من الأمر ما استدبرنا لما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه ومعنى ذلك أنها لم تكن عالمة وقت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإباحة غسل المرأة لزوجها ، ثم علمت بعد ذلك .

                                                                                                                                وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى إلى امرأته أسماء بنت عميس أن تغسله بعد وفاته ، وهكذا فعل أبو موسى الأشعري ; ولأن إباحة الغسل مستفادة بالنكاح فتبقى ما بقي النكاح ، والنكاح بعد الموت باق إلى وقت انقطاع العدة ، بخلاف ما إذا ماتت المرأة حيث لا يغسلها الزوج ; لأن هناك انتهى ملك النكاح لانعدام المحل ، فصار الزوج أجنبيا فلا يحل له غسلها واعتبر بملك اليمين حيث لا ينتفي عن المحل بموت المالك ، ويبطل بموت المحل فكذا هذا ، وهذا إذا لم تثبت البينونة بينهما في حال حياة الزوج ، فأما إذا ثبتت بأن طلقها ثلاثا ، أو بائنا ثم مات وهي في العدة لا يباح لها غسله ; لأن ملك النكاح ارتفع بالإبانة وكذا إذا قبلت ابن زوجها ، ثم مات وهي في العدة ; لأن الحرمة ثبتت بالتقبيل على سبيل التأبيد فبطل ملك النكاح ضرورة .

                                                                                                                                وكذا لو ارتدت عن الإسلام - والعياذ بالله ثم - أسلمت بعد موته ; لأن الردة توجب زوال ملك النكاح .

                                                                                                                                ولو طلقها [ ص: 305 ] طلاقا رجعيا ثم مات وهي في العدة لها أن تغسله ; لأن الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح .

                                                                                                                                وأما إذا حدث بعد وفاة الزوج ما يوجب البينونة لا يباح لها أن تغسله عندنا وعند زفر يباح بأن ارتدت المرأة بعد موته ثم أسلمت ، وجه قول زفر : أن الردة بعد الموت لا ترفع النكاح ; لأنه ارتفع بالموت فبقي حل الغسل ، كما كان بخلاف الردة في حالة الحياة ، ولنا أن زوال النكاح موقوف على انقضاء العدة فكان النكاح قائما فيرتفع بالردة ، وإن لم يبق مطلقا فقد بقي في حق حل المس والنظر ، وكما ترفع الردة مطلق الحل ترفع ما بقي منه وهو حل المس والنظر وعلى هذا الخلاف إذا طاوعت ابن زوجها ، أو قبلته بعد موته ، أو وطئت بشبهة بعد موته فوجب عليها العدة ، ليس لها أن تغسله عندنا خلافا لزفر .

                                                                                                                                ولو مات الزوج وهي معتدة من وطء شبهة ليس لها أن تغسله وكذا إذا انقضت عدتها من ذلك الغير عندنا ، خلافا لأبي يوسف ; لأنه لم يثبت لها حل الغسل عند الموت فلا يثبت بعده ، وكذلك إذا دخل الزوج بأخت امرأته بشبهة ووجبت عليها العدة ثم مات فانقضت عدتها بعد موته فهو على هذا الخلاف ، وكذلك المجوسي إذا أسلم ثم مات ثم أسلمت امرأته المجوسية لم تغسله عندنا ، خلافا لأبي يوسف كذا ذكره الشيخ الإمام السرخسي الخلاف في هذه المسائل الثلاث ، وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن للمرأة أن تغسله في هذه المواضع عندنا ، وعند زفر ليس لها أن تغسله .

                                                                                                                                ولو لم يكن فيهن امرأته ولكن معهن رجل كافر علمنه غسل الميت ويخلين بينهما حتى يغسله ويكفنه ، ثم يصلين عليه ويدفنه ; لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف وإن لم يكن بينهما موافقة في الدين ، فإن لم يكن معهن رجل لا مسلم ولا كافر ، فإن كان معهن صبية صغيرة لم تبلغ حد الشهوة وأطاقت الغسل علمنها الغسل ، ويخلين بينه وبينها حتى تغسله وتكفنه ; لأن حكم العورة غير ثابت في حقها وإن لم يكن معهن ذلك فإنهن لا يغسلنه ، سواء كن ذوات رحم محرم منه أو لا ; لأن المحرم في حكم النظر إلى العورة والأجنبية سواء ، فكما لا تغسله الأجنبية فكذا ذوات محارمه ، ولكن ييممنه غير أن الميممة إذا كانت ذات رحم محرم منه تيممه بغير خرقة ، وإن لم تكن ذات رحم محرم منه تيممه بخرقة تلفها على كفها ; لأنه لم يكن لها أن تمسه في حياته فكذا بعد وفاته ، وكذا لو كان فيهن أم ولده لم تغسله في قول أبي حنيفة الآخر ، وفي قوله الأول وهو قول زفر والشافعي لها أن تغسله ; لأنها معتدة فأشبهت المنكوحة ، ولنا أن الملك لا يبقى فيها ببقاء العدة ; لأن الملك فيها كان ملك يمين وهو يعتق بموت السيد ، والحرية تنافي ملك اليمين فلا يبقى بخلاف المنكوحة ، فإن حريتها لا تنافي ملك النكاح ، كما في حال حياة الزوج ، وكذا لو كان فيهن أمته ، أو مدبرته ، أما الأمة ; فلأنها زالت عن ملكه بالموت إلى الورثة ، ولا يباح لأمة الغير عورته غير أنها لو يممته تيممه بغير خرقة ; لأنه يباح للجارية مس موضع التيمم بخلاف أم الولد فإنها تعتق وتلتحق بسائر الحرائر الأجنبيات .

                                                                                                                                وأما المدبرة ; فلأنها تعتق ولا يجب عليها العدة ، ثم أم الولد لا تغسله فلأن لا تغسله هذه أولى ، وقال الشافعي الأمة تغسل مولاها ; لأنه يحتاج إلى من يغسله فبقي الملك له فيها حكما ، وهذا غير سديد ; لأن حاجته تندفع بالجنس أو بالتيمم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية