الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما شرائط الركن فأنواع بعضها يرجع إلى المؤدي وبعضها يرجع إلى المؤدى وبعضها يرجع إلى المؤدى إليه أما .

                                                                                                                                الذي يرجع إلى المؤدي فنية الزكاة والكلام في النية في موضعين في بيان أن النية شرط جواز أداء الزكاة وفي بيان وقت نية الأداء ، أما الأول فالدليل عليه قوله : صلى الله عليه وسلم { لا عمل لمن لا نية له } وقوله { إنما الأعمال بالنيات } ; ولأن الزكاة عبادة مقصودة فلا تتأدى بدون النية كالصوم والصلاة .

                                                                                                                                ولو تصدق بجميع ماله على فقير ولم ينو الزكاة أجزأه عن الزكاة استحسانا والقياس أن لا يجوز .

                                                                                                                                وجه القياس ما ذكرنا أن الزكاة عبادة مقصودة فلا بد لها من النية .

                                                                                                                                وجه الاستحسان أن النية وجدت دلالة ; لأن الظاهر أن من عليه الزكاة لا يتصدق بجميع ماله ويغفل عن نية الزكاة فكانت النية موجودة دلالة ، وعلى هذا إذا وهب جميع النصاب من الفقير أو نوى تطوعا .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه إن نوى أن يتصدق بجميع ماله فتصدق شيئا فشيئا أجزأه عن الزكاة لما قلنا وإن لم ينو أن يتصدق بجميع ماله فجعل يتصدق حتى أتى عليه ضمن الزكاة ; لأن الزكاة بقيت واجبة عليه بعدما تصدق ببعض المال فلا تسقط بالتصدق بالباقي .

                                                                                                                                ولو تصدق ببعض ماله من غير نية الزكاة حتى لم يجزئه عن زكاة الكل فهل يجزئه عن زكاة القدر الذي تصدق به ؟ قال أبو يوسف : لا يجزئه وعليه أن يزكي الجميع ، وقال : محمد يجزئه عن زكاة ما تصدق به ويزكي ما بقي حتى أنه لو أدى خمسة من مائتين لا ينوي الزكاة أو نوى تطوعا لا تسقط عنه زكاة الخمسة في قول أبي يوسف وعليه زكاة الكل ، وعند محمد تسقط عنه زكاة الخمسة وهو ثمن درهم ولا يسقط عنه زكاة الباقي .

                                                                                                                                وكذا لو أدى مائة لا ينوي الزكاة ونوى تطوعا لا تسقط زكاة المائة وعليه أن يزكي الكل عند أبي يوسف ، وعند محمد يسقط عنه زكاة ما تصدق وهو درهمان ونصف ولا يسقط عنه زكاة الباقي كذا ذكر القدوري الخلاف في شرحه مختصر الكرخي وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه يسقط عنه زكاة القدر المؤدى ولم يذكر الخلاف .

                                                                                                                                وجه قول محمد اعتبار البعض بالكل وهو أنه لو تصدق بالكل لجاز عن زكاة الكل فإذا تصدق بالبعض يجوز عن زكاته ; لأن الواجب شائع في جميع النصاب ولأبي يوسف أن سقوط الزكاة بغير نية لزوال ملكه على وجه القربة عن المال الذي فيه الزكاة ولم يوجد ذلك في التصدق بالبعض ولو تصدق بخمسة ينوي بجميعها الزكاة والتطوع كانت من الزكاة في قول أبي يوسف .

                                                                                                                                وقال محمد : هي من التطوع .

                                                                                                                                وجه قول محمد أن النيتين تعارضتا فلم يصح التعيين للتعارض فالتحق بالعدم فبقي التصدق بنية مطلقة فيقع عن التطوع ; لأنه أدنى والأدنى متيقن به .

                                                                                                                                وجه قول أبي يوسف أن عند تعارض الجهتين يعمل بالأقوى وهو الفرض كما في تعارض الدليلين أنه يعمل بأقواهما ، ولأن التعيين يعتبر في الزكاة لا في التطوع ; لأن التطوع لا يحتاج إلى التعيين ألا ترى أن إطلاق الصدقة يقع عليه فلغا تعيينه وبقيت الزكاة متعينة ؟ فيقع عن الزكاة .

                                                                                                                                والمعتبر في الدفع نية الآمر حتى لو دفع خمسة إلى رجل وأمره أن يدفعها إلى الفقير عن زكاة ماله فدفع ولم تحضره النية عند الدفع جاز ; لأن النية إنما تعتبر من المؤدي والمؤدي هو الآمر في الحقيقة وإنما المأمور نائب عنه في الأداء ولهذا لو وكل ذميا بأداء الزكاة جاز ; لأن المؤدي في الحقيقة هو المسلم ، وذكر في الفتاوى عن الحسن بن زياد في رجل أعطى رجلا دراهم ليتصدق بها تطوعا ثم نوى الآمر أن يكون ذلك من زكاة ماله ثم تصدق المأمور جاز عن زكاة مال الآمر .

                                                                                                                                وكذا [ ص: 41 ] لو قال : تصدق بها عن كفارة يميني ثم نوى الآمر عن زكاة ماله جاز ; لما ذكرنا أن الآمر هو المؤدي من حيث المعنى وإنما المأمور نائب عنه ولو قال : إن دخلت هذه الدار فلله علي أن أتصدق بهذه المائة درهم ، ثم نوى وقت الدخول عن زكاة ماله لا تكون زكاة ; لأن عند الدخول وجب عليه التصدق بالنذر المتقدم أو اليمين المتقدمة وذلك لا يحتمل الرجوع فيه بخلاف الأول ولو تصدق عن غيره بغير أمره فإن تصدق بمال نفسه جازت الصدقة عن نفسه ولا تجوز عن غيره وإن أجازه ورضي به أما عدم الجواز عن غيره فلعدم التمليك منه إذ لا ملك له في المؤدى ولا يملكه بالإجازة فلا تقع الصدقة عنه وتقع عن المتصدق ; لأن التصدق وجد نفاذا عليه ، وإن تصدق بمال المتصدق عنه وقف على إجازته فإن أجاز والمال قائم جاز عن الزكاة وإن كان المال هالكا جاز عن التطوع ولم يجز عن الزكاة ; لأنه لما تصدق عنه بغير أمره وهلك المال صار بدله دينا في ذمته فلو جاز ذلك عن الزكاة كان أداء الدين عن الغير وأنه لا يجوز والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية