( والرابع ) مرة واحدة ، لقوله تعالى : { غسل الرجلين ، وأرجلكم إلى الكعبين } بنصب اللام من الأرجل معطوفا على قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } كأنه قال : فاغسلوا وجوهكم ، وأيديكم إلى المرافق ، وأرجلكم إلى الكعبين ، وامسحوا برءوسكم .
والأمر المطلق لا يقتضي التكرار ، وقالت الرافضة الفرض هو المسح لا غير وقال بالتخيير بين المسح ، والغسل وقال بعض المتأخرين بالجمع بينهما وأصل هذا الاختلاف أن الآية قرئت بقراءتين ، بالنصب ، والخفض فمن قال بالمسح أخذ بقراءة الخفض ، فإنها تقتضي كون الأرجل ممسوحة لا مغسولة ; لأنها تكون معطوفة على الرأس ، والمعطوف يشارك المعطوف عليه في الحكم ، ثم وظيفة الرأس المسح ، فكذا وظيفة [ ص: 6 ] الرجل ، ومصداق هذه القراءة أنه اجتمع في الكلام عاملان ، أحدهما : قوله : { الحسن البصري فاغسلوا }
والثاني : حرف الجر ، وهو الباء في قوله : { برءوسكم } ، والباء أقرب فكان الخفض أولى ، ومن قال بالتخيير يقول : إن القراءتين قد ثبت كون كل واحدة منهما قرآنا ، وتعذر الجمع بين موجبيهما ، وهو وجوب المسح ، والغسل ، إذ لا قائل به في السلف ، فيخير المكلف ، إن شاء عمل بقراءة النصب فغسل ، وإن شاء بقراءة الخفض فمسح ، وأيهما فعل يكون إتيانا بالمفروض ، كما في الأمر بأحد الأشياء الثلاثة ، ومن قال بالجمع يقول : القراءتان في آية واحدة بمنزلة آيتين فيجب العمل بهما جميعا ما أمكن ، وأمكن ههنا لعدم التنافي ، إذ لا تنافي بين الغسل ، والمسح في محل واحد فيجب الجمع بينهما .
( ولنا ) قراءة النصب ، وأنها تقتضي كون ، وظيفة الأرجل الغسل ، لأنها تكون معطوفة على المغسولات ، وهي الوجه ، واليدان ، والمعطوف على المغسول يكون مغسولا تحقيقا لمقتضى العطف ، وحجة هذه القراءة وجوه : .
أحدها : ما قاله بعض مشايخنا أن قراءة النصب محكمة في الدلالة على كون الأرجل معطوفة على المغسولات ، وقراءة الخفض محتملة ; لأنه يحتمل أنها معطوفة على الرءوس حقيقة ، ومحلها من الإعراب الخفض ، ويحتمل أنها معطوفة على الوجه ، واليدين حقيقة ، ومحلها من الإعراب النصب ، إلا أن خفضها للمجاورة ، وإعطاء الإعراب بالمجاورة طريقة شائعة في اللغة بغير حائل ، وبحائل ، أما بغير الحائل فكقولهم : جحر ضب خرب وماء شن بارد ، والخرب نعت الجحر لا نعت الضب ، والبرودة نعت الماء لا نعت الشن ، ثم خفض لمكان المجاورة .
وأما مع الحائل ، فكما قال تعالى { : يطوف عليهم ولدان مخلدون } إلى قوله : { وحور عين } لأنهن لا يطاف بهن ، وكما قال : الفرزدق
فهل أنت إن ماتت أتانك راكب إلى آل بسطام بن قيس فخاطب
فثبت أن قراءة الخفض محتملة ، وقراءة النصب محكمة ، فكان العمل بقراءة النصب أولى إلا أن في هذا إشكالا ، وهو أن هذا الكلام في حد التعارض لأن قراءة النصب محتملة أيضا في الدلالة على كون الأرجل معطوفة على اليدين ، والرجلين ، لأنه يحتمل أنها معطوفة على الرأس .والمراد بها المسح حقيقة ، لكنها نصبت على المعنى لا على اللفظ ، لأن الممسوح به مفعول به ، فصار كأنه قال تعالى { ، وامسحوا برءوسكم } .
والإعراب قد يتبع اللفظ ، وقد يتبع المعنى ، كما قال الشاعر :
معاوية إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا
والثاني : أن الغسل يتضمن المسح ، إذ الغسل إسالة ، والمسح إصابة ، وفي الإسالة إصابة ، وزيادة ، فكان ما قلناه عملا بالقراءتين معا ، فكان أولى .
والثالث : أنه قد روى ، جابر ، ، وأبو هريرة ، وعائشة ، وغيرهم ، أن { ، وعبد الله بن عمر } . رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء فقال : ويل للأعقاب من النار ، أسبغوا الوضوء
وروي { } ومعلوم أن قوله : { أنه توضأ مرة ، وغسل رجليه وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به } وعيد لا يستحق إلا بترك المفروض ، وكذا نفي قبول ويل للأعقاب من النار ، فدل أن غسل الرجلين من فرائض الوضوء . صلاة من لا يغسل رجليه في وضوئه
وقد ثبت بالتواتر { } ، لا يجحده مسلم ، فكان قوله ، وفعله بيان المراد بالآية ، فثبت بالدلائل المتصلة ، والمنفصلة أن الأرجل في الآية معطوفة على المغسول لا على الممسوح ، فكان وظيفتها الغسل لا المسح ، على أنه إن وقع التعارض بين القراءتين فالحكم في تعارض القراءتين كالحكم في تعارض الآيتين ، وهو أنه إن أمكن العمل بهما مطلقا يعمل ، وإن لم يمكن للتنافي يعمل بهما بالقدر الممكن ، وههنا لا يمكن الجمع بين الغسل ، والمسح في عضو واحد في حالة واحدة ; لأنه لم يقل به أحد من السلف ، ولأنه يؤدي إلى تكرار المسح ، لما ذكرنا أن الغسل يتضمن المسح ، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار ، فيعمل بهما في الحالتين ، فتحمل قراءة النصب على ما إذا كانت الرجلان باديتين ، وتحمل قراءة الخفض على ما إذا كانتا مستورتين بالخفين توفيقا بين القراءتين ، وعملا بهما [ ص: 7 ] بالقدر الممكن ، وبه تبين أن القول بالتخيير باطل عند إمكان العمل بهما في الجملة . أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في الوضوء
وعند عدم الإمكان أصلا ، ورأسا لا يخير أيضا ، بل يتوقف على ما عرف في أصول الفقه ، ثم عند الكعبان يدخلان في الغسل أصحابنا الثلاثة وعند لا يدخلان ، والكلام في الكعبين على نحو الكلام في المرفقين ، وقد ذكرناه . زفر
، والكعبان هما العظمان الناتئان في أسفل الساق بلا خلاف بين الأصحاب ، كذا ذكره لأن الكعب في اللغة اسم لما علا وارتفع ، ومنه سميت القدوري الكعبة كعبة ، وأصله من كعب القناة ، وهو أنبوبها سمي به لارتفاعه .
وتسمى الجارية الناهدة الثديين كاعبا لارتفاع ثدييها ، وكذا في العرف يفهم منه الناتئ ، يقال ضرب كعب فلان ، وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في تسوية الصفوف في الصلاة { : ألصقوا الكعاب بالكعاب } ولم يتحقق معنى الإلصاق إلا في الناتئ ، وما روى هشام عن أنه المفصل الذي عند معقد الشراك على ظهر القدم فغير صحيح ، إنما قال محمد في مسألة محمد ، أنه يقطع الخف أسفل الكعب ، فقال : إن الكعب ههنا الذي في مفصل القدم فنقل المحرم إذا لم يجد نعلين هشام ذلك إلى الطهارة ، والله أعلم .
وهذا الذي ذكرنا من وجوب غسل الرجلين إذا كانتا باديتين لا عذر بهما ، فأما إذا كانتا مستورتين بالخف ، أو كان بهما عذر من كسر ، أو جرح ، أو قرح ، فوظيفتهما المسح ، فيقع الكلام في الأصل في موضعين : أحدهما : في المسح على الخفين .
والثاني : في المسح على الجبائر .