قال أبو عبيدة : كان بنو عامر بن صعصعة حمسا ، والحمس قريش ومن له فيهم ولادة ، والحمس متشددون في دينهم ، وكانت عامر أيضا لقاحا لا يدينون للملوك . فلما ملك النعمان بن المنذر ملكه ، وكان يجهز كل عام لطيمة ، وهي التجارة ، لتباع كسرى أبرويز بعكاظ ، فعرضت بنو عامر لبعض ما جهزه فأخذوه . فغضب لذلك النعمان وبعث إلى أخيه لأمه ، وهو وبرة بن رومانس الكلبي ، وبعث إلى صنائعه ووضائعه ، والصنائع من كان يصطنعه من العرب ليغزيه ، والوضائع هم الذين كانوا شبه المشايخ ، وأرسل إلى بني ضبة بن أد وغيرهم من الرباب وتميم فجمعهم ، فأجابوه ، فأتاه ضرار بن عمرو الضبي في تسعة من بنيه كلهم فوارس ومعه حبيش بن دلف ، وكان فارسا شجاعا ، فاجتمعوا في جيش عظيم ، فجهز النعمان معهم عيرا وأمرهم بتسييرها وقال لهم : إذا [ ص: 571 ] فرغتم من عكاظ وانسلخت الحرم ورجع كل قوم إلى بلادهم ، فاقصدوا بني عامر فإنهم قريب بنواحي السلان . فخرجوا وكتموا أمرهم وقالوا : خرجنا لئلا يعرض أحد للطيمة الملك .
فلما فرغ الناس من عكاظ علمت قريش بحالهم ، فأرسل عبد الله بن جدعان قاصدا إلى بني عامر يعلمهم الخبر ، فسار إليهم وأخبرهم خبرهم فحذروا وتهيأوا للحرب وتحرزوا ووضعوا العيون ، وعاد عامر عليهم عامر بن مالك ملاعب الأسنة ، وأقبل الجيش فالتقوا بالسلان فاقتتلوا قتالا شديدا . فبينا هم يقتتلون إذ نظر يزيد بن عمرو بن خويلد الصعق إلى وبرة بن رومانس أخي النعمان فأعجبه هيئته ، فحمل عليه فأسره . فلما صار في أيديهم هم الجيش بالهزيمة ، فنهاهم ضرار بن عمرو الضبي وقام بأمر الناس فقاتل هو وبنوه قتالا شديدا ، فلما رآه أبو براء عامر بن مالك وما يصنع ببني عامر هو وبنوه حمل عليه ، وكان أبو براء رجلا شديد الساعد . فلما حمل على ضرار اقتتلا ، فسقط ضرار إلى الأرض وقاتل عليه بنوه حتى خلصوه وركب ، وكان شيخا ، فلما ركب قال : " من سره بنوه ساءته نفسه " ، فذهبت مثلا . يعني من سره بنوه إذا صاروا رجالا كبر وضعف فساءه ذلك .
وجعل أبو براء يلح على ضرار طمعا في فدائه ، وجعل بنوه يحمونه . فلما رأى ذلك أبو براء قال له : لتموتن أو لأموتن دونك فأحلني على رجل له فداء ، فأومأ ضرار إلى حبيش بن دلف وكان سيدا ، فحمل عليه أبو براء فأسره ، وكان حبيش أسود نحيفا دميما ، فلما رآه كذلك ظنه عبدا وأن ضرارا خدعه ، فقال : إنا لله ، أعزز سائر القوم ، ألا في الشؤم وقعت ! فلما سمعها حبيش منه خاف أن يقتله فقال : أيها الرجل إن كنت تريد اللبن ، يعني الإبل ، فقد أصبته . فافتدى نفسه بأربعمائة بعير وهزم جيش النعمان . فلما رجع الفل إليه أخبروه بأسر أخيه ، وبقيام ضرار بأمر الناس ، وما جرى له مع أبي براء ، وافتدى وبرة بن رومانس نفسه بألف بعير وفرس من يزيد بن الصعق ، فاستغنى يزيد ، وكان قبله خفيف الحال ، وقال لبيد يذكر أيام قومه : [ ص: 572 ]
إني امرؤ منعت أرومة عامر ضيمي وقد حنقت علي خصوم
يقول فيها : وغداة قاع القريتين أتاهم
رهوا يلوح خلالها التسويم بكتائب رجح تعود كبشها
نطح الكباش كأنهن نجوم
قوله : قاع القريتين ، يعني يوم السلان .
( حبيش بن دلف بضم الحاء المهملة ، وبالباء الموحدة ، وبالياء المثناة من تحتها نقطتان ، وآخره شين معجمة ) .