لما ملك زنكي قلاع الهكارية والزوزان لم يفعل مع أهلها ما ظنوه من الإحسان والإنعام ، بل فعل ضده ، وضيق عليهم ، وكان يبلغهم أفعال بدر الدين مع جنده ورعاياه وإحسانه إليهم ، وبذله الأموال لهم ، وكانوا يريدون العود إليه ، ويمنعهم الخوف منه لما أسلفوه من ذلك ، فلما كان الآن أعلنوا بما فعل معهم فأرسلوا إلى بدر الدين في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة في التسليم إليه ، وطلبوا منه اليمن ، والعفو عنهم ، وذكروا شيئا من إقطاع يكون لهم ، فأجابهم إلى ذلك ، وأرسل إلى يستأذنه في ذلك ، فلم يأذن له . الملك الأشرف
وعاد زنكي من عند الأشرف ، فجمع جموعا ، وحصر قلعة العمادية ، فلم يبلغ منهم غرضا ، وأعادوا مراسلة بدر الدين في التسليم إليه ، فكتب إلى في المعنى ، وبذل له قلعة جديدة الملك الأشرف نصيبين ، وولاية بين النهرين ليأذن له في أخذها ، فأذن له ، فأرسل إليها كلها النواب وتسلموها وأحسن إلى أهلها ، ورحل زنكي عنها ، ووفى له بدر الدين بما بذله لهم .
فلما سمع جند باقي القلاع بما فعلوا وما وصلهم من الإحسان والزيادة ، رغبوا كلهم في التسليم إليه ، فسير إليهم النواب ، واتفقت كلمة أهلها على طاعته والانقياد إليه ، والعجب أن العساكر اجتمعت من الشام ، والجزيرة ، وديار بكر ، وخلاط ، [ ص: 324 ] وغيرها ، في استعادة هذه القلاع ، فلم يقدروا على ذلك ، فلما تفرقوا حضر أهلها وسألوا أن تؤخذ منهم ، فعادت صفوا عفوا بغير منة ، ولقد أحسن من قال :
لا سهل إلا ما جعلت سهلا وإن تشأ تجعل بحزن وحلا
فتبارك الله الفعال لما يريد ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، وهو على كل شيء قدير .