بيان
لا ينبغي أن تستبعد هذه اللذة إذ يشهد لها العقل والنقل ; فأما العقل فليعتبر حال المحب لشخص بسبب جماله أو لملك بسبب إنعامه وأمواله أنه كيف يتلذذ به في الخلوة ومناجاته حتى لا يأتيه النوم طول ليله . لذة المناجاة عقلا ونقلا
فإن قلت : إن الجميل يتلذذ بالنظر إليه وإن الله تعالى لا يرى ، فاعلم أنه لو كان الجميل المحبوب وراء ستر أو كان في بيت مظلم لكان المحب يتلذذ بمجاورته بمسمع منه وإن كان ذلك أيضا معلوما عنده .
فإن قلت : إنه ينتظر جوابه فيتلذذ بسماع جوابه وليس يسمع كلام الله تعالى ، فاعلم أنه إن كان يعلم أنه لا يجيبه ويسكت عنه فقد بقيت أيضا لذة في عرض أحواله عليه ورفع سريرته إليه ، كيف والموقن يسمع من الله تعالى كل ما يرد على خاطره في أثناء مناجاته فيتلذذ به ، وكذا الذي يخلو بالملك ويعرض عليه حاجاته في جنح الليل يتلذذ به في رجاء إنعامه ، والرجاء في حق الله تعالى أصدق وما عند الله أبقى وأنفع مما عند غيره ، وكيف لا يتلذذ بعرض الحاجات عليه في الخلوات .
وأما النقل فيشهد له أحوال قوام الليل في تلذذهم بقيام الليل واستقصارهم له كما يستقصر المحب ليلة وصال الحبيب ، حتى قيل لبعضهم : كيف أنت والليل ؟ قال ما راعيته قط يريني وجهه ثم ينصرف وما تأملته بعد .
وقال : " منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر " . علي بن بكار
وقال " " : " إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي وإذا طلعت حزنت لدخول الناس علي " . الفضيل بن عياض
وقال أبو سليمان : " أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا " .
وقال بعضهم : " ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة " .
وقال بعضهم : " لذة المناجاة ليست من الدنيا إنما هي من الجنة أظهرها الله تعالى لأوليائه لا يجدها سواهم " ، وقال [ ص: 90 ] : " ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث : ابن المنكدر ولقاء الإخوان والصلاة في الجماعة " . قيام الليل
وقيل لبعضهم : " كيف الليل عليك ؟ " فقال : " ساعة أنا فيها بين حالتين أفرح بظلمته إذا جاء وأغتم بفجره إذا طلع ما تم فرحي به قط " .