[ ص: 192 ] الآفة العاشرة : : المزاح
والمنهي عنه المذموم منه هو المداومة عليه والإفراط فيه ، فأما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل ، وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك ، والضغينة في بعض الأحوال ، ويسقط المهابة والوقار ، وأما ما يخلو عن هذه الأمور ، فلا يذم ، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " ألا إن مثله يقدر على أن يمزح ولا يقول إلا حقا ، وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يضحك الناس كيفما كان . إني لأمزح ولا أقول إلا حقا
وقد قال " عمر " : " من مزح استخف به " .
وقال " " لابنه : " يا بني ، لا تمازح الشريف فيحقد عليك ، ولا الدنيء فيجترئ عليك " . سعيد بن العاص
وقيل : لكل شيء بذر ، وبذر العداوة المزاح " ويقال : " المزاح مسلبة للنهى ، مقطعة للأصدقاء " .
ومن الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة يواظب عليه ، ويفرط فيه ، ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم ، ويتمسك بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن " " في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد ، وهو خطأ . لعائشة
وبالجملة فإن كنت تقدر على أن تمزح ، ولا تقول إلا حقا ، ولا تؤذي قلبا ، ولا تفرط فيه ، وتقتصر عليه أحيانا على الندور - فلا حرج عليك فيه .
ومن مطايباته - صلى الله عليه وسلم - ما إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا ) [ الواقعة : 35 ، 36 ] روي أن عجوزا أتته ، فقال لها : " لا يدخل الجنة عجوز ، " فبكت ، فقال لها : "إنك لست بعجوز يومئذ ، قال الله تعالى : ( وجاءت امرأة إليه - صلى الله عليه وسلم - فقالت : " إن زوجي يدعوك " قال : " ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض ؟ " قالت : " والله ما بعينه بياض " ، قال : " بلى إن بعينه بياضا " ، فقالت : " لا والله " فقال - صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد إلا وبعينه بياض " وأراد بالبياض المحيط بالحدقة .
وجاءت امرأة أخرى فقالت : " يا رسول الله احملني على بعير " ، فقال : " بل نحملك على ابن البعير " فقالت : " ما أصنع به ؟! إنه لا يحملني " ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ما من بعير إلا وهو ابن بعير " .
أنس " : كان " لأبي طلحة " ابن يقال له " أبو عمير " ، وكان رسول الله يأتيهم ويقول : " أبا عمير ، ما فعل النغير " النغير كان يلعب به ، وهو فرخ العصفور . وقال "
" رضي الله عنها : خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة عائشة بدر ، فقال : " تعالي حتى أسابقك " فشددت علي درعي ، ثم خططنا خطا فقمنا عليه واستبقنا ، فسبقني وقال : " هذه مكان ذي المجاز " وذلك أنه جاء يوما ونحن بذي المجاز وأنا جارية ، فقد بعثني أبي بشيء ، فقال : " أعطينيه " ، فأبيت وسعيت ، وسعى في أثري فلم يدركني . وقالت "
وقالت أيضا : ، فصنعت خزيرا وجئت به ، فقلت [ ص: 193 ] وسودة بنت زمعة لسودة : " كلي " ، فقالت : " لا أحبه " ، فقلت : " والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك " ، فقالت : " ما أنا ذائقته " ، فأخذت بيدي من الصحفة شيئا منه فلطخت به وجهها ، ورسول الله جالس بيني وبينها ، فخفض لها ركبته لتستقيد ، فتناولت من الصحفة شيئا فمسحت به وجهي ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك . كان عندي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وعن " أبي سلمة " أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يدلع لسانه " " رضي الله عنهما ، فيرى الصبي لسانه فيهش له للحسن بن علي .
عيينة الفزاري " : " والله ليكونن لي الابن قد تزوج وبقل وجهه وما قبلته قط " ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إن من لا يرحم لا يرحم " . وقال : "
فأكثر هذه المطايبات منقولة مع النساء والصبيان ، وكان ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - معالجة لضعف قلوبهم من غير ميل إلى هزل .
لصهيب "وبه رمد وهو يأكل تمرا : " أتأكل التمر وأنت رمد " فقال : " إنما آكل بالشق الآخر يا رسول الله " فتبسم صلى الله عليه وسلم . قال بعض الرواة : "حتى نظرت إلى نواجذه " . وقال - صلى الله عليه وسلم - مرة "
وكان " نعيمان الأنصاري " رجلا مزاحا ، لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول : " يا رسول الله ، هذا قد اشتريته لك وأهديته لك " فإذا جاء صاحبها يتقاضاه بالثمن جاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : " يا رسول الله أعطه ثمن متاعه " فيقول له - صلى الله عليه وسلم - : " أولم تهده لنا ؟! " فيقول : " يا رسول الله ، إنه لم يكن عندي ثمنه وأحببت أن تأكل منه " فيضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأمر لصاحبه بثمنه . فهذه مطايبات يباح مثلها على الندور لا على الدوام .