: درجات الناس مع الغضب
اعلم أن قوة الغضب محلها القلب ، ومعناها غليان دم القلب ، وانتشاره في العروق ، وارتفاعه إلى أعالي البدن كما ترتفع النار والماء يغلي في القدر ، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين ، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها .
ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث من التفريط والإفراط والاعتدال :
أما التفريط : ففقد هذه القوة أو ضعفها ، وذلك مذموم ، وهو الذي يقال فيه : " إنه لا حمية له " ، وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشدة والحمية فقال : ( أشداء على الكفار ) [ الفتح : 29 ] وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) [ التوبة : 73 ، والتحريم : 9 ] وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب .
وأما الإفراط : فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته ، ولا يبقى للمرء معه بصيرة وفكرة ولا اختيار ، بل يصير في صورة المضطر ، ومن آثار هذا الغضب في الظاهر : تغير اللون ، وشدة الرعدة في الأطراف ، وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام ، واضطراب الحركة والكلام ، حتى يظهر الزبد على الأشداق ، وتحمر الأحداق ، وتنقلب المناخر ، وتستحيل الخلقة .
ولو رأى الغضبان في حال غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته ، واستحالة خلقته ، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره ، فإن الظاهر عنوان الباطن ، وإنما قبحت صورة الباطن أولا ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانيا ، فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن ، فقس المثمر بالثمرة . فهذا . أثره في الجسد
وأما : فانطلاقه بالشتم ، والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ، ويستحي منه قائله عند فتور الغضب ، وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ . أثره في اللسان
وأما : فالضرب ، والتهجم ، والتمزيق ، والقتل والجرح عند التمكن ، وقد يمزق ثوب نفسه ، ويلطم نفسه ، وقد يضرب بيده على الأرض ، وربما يعتريه مثل الغشية ، وربما يضرب الجمادات والحيوانات ، أو يكسر القصعة ، أو يشتم البهيمة ، أو ترفسه دابة فيرفسها ، ويقابلها بذلك كالمجنون . أثره على الأعضاء
وأما : فالحقد والحسد ، وإضمار السوء ، والشماتة بالمساءات ، والحزن بالسرور ، والعزم على إفشاء السر وهتك الستر ، والاستهزاء ، وغير ذلك من القبائح ، فهذه ثمرة الغضب المفرط . أثره في القلب
[ ص: 207 ] وأما ثمرة الحمية الضعيفة : فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم والزوجة ، واحتمال الذل من الأخساء ، وصغر النفس ، وهو أيضا مذموم ، إذ من ثمراته عدم الغيرة على الحرم وهو صونها ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " سعدا لغيور ، وأنا أغير من سعد ، والله أغير مني " . وإنما إن ، ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب ، ولذلك قيل : " كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها " . خلقت الغيرة لحفظ الأنساب
ومن ضعف الغضب : الخور والسكوت عند مشاهدة المنكرات ، وقد قال تعالى : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) [ النور : 2 ] .
مذموم ، وإنما المحمود غضب ينتظر إشارة العقل والدين ، فينبعث حيث تجب الحمية ، وينطفئ حيث يحسن الحلم ، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده ، وهو الوسط الذي وصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : " ففقد الغضب " . خير الأمور أوساطها