وأما : فأول كلماته قولك " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض " وليس المراد بالوجه الوجه الظاهر ، فإنك إنما وجهته إلى جهة القبلة ، والله سبحانه يتقدس عن أن تحده الجهات حتى تقبل بوجه بدنك عليه ، وإنما وجه القلب هو الذي تتوجه به إلى فاطر السماوات والأرض فانظر إليه : أمتوجه إلى أمانيه وهمه في البيت والسوق متبع للشهوات ، أو مقبل على فاطر السماوات ؟ وإياك أن تكون أول مفاتحتك للمناجاة بالكذب ولن ينصرف الوجه إلى الله تعالى إلا بانصرافه عما سواه ، فاجتهد في الحال في صرفه إليه ، وإن عجزت عنه على الدوام فليكن قولك في الحال صادقا . وإذا قلت : " حنيفا مسلما " فينبغي أن يخطر ببالك أن المسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده ، فإن لم تكن كذلك كنت كاذبا فاجتهد في أن تعزم عليه في الاستقبال وتندم على ما سبق من الأحوال . وإذا قلت : " وما أنا من المشركين " فأخطر ببالك الشرك الخفي كمن يقصد بعبادته وجه الله وحمد الناس ، فكن حذرا متقيا من هذا الشرك واستشعر الخجلة في قلبك إن وصفت نفسك بأنك لست من المشركين من غير براءة عن هذا الشرك ، فإن اسم الشرك يقع على القليل والكثير منه . وإذا قلت : " محياي ومماتي لله " [ ص: 39 ] فاعلم أن هذا حال عبد مفقود لنفسه موجود لسيده ، وأنه إن صدر ممن رضاه وغضبه وقيامه وقعوده ورغبته في الحياة ورهبته من الموت لأمور الدنيا لم يكن ملائما للحال . وإذا قلت : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فاعلم أنه عدوك ومترصد لصرف قلبك عن الله عز وجل حسدا لك على مناجاتك مع الله عز وجل وسجودك له ، مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها ، وأن استعاذتك بالله سبحانه منه بترك ما يحبه وتبديله بما يحب الله عز وجل لا بمجرد قولك ، فإن من قصده سبع أو عدو ليفترسه أو ليقتله فقال : أعوذ منك بهذا الحصن الحصين وهو ثابت على مكانه ذلك لا ينفعه ، بل لا يفيده إلا بتبديل المكان ، فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محاب الشيطان ومكاره الرحمن فلا يغنيه مجرد القول ، ومن اتخذ إلهه هواه فهو في ميدان الشيطان لا في حصن الله تعالى . واعلم أن من مكايده أن يشغلك في صلاتك بذكر الآخرة وتدبير فعل الخيرات ليمنعك عن فهم ما تقرأ ، فاعلم أن كل ما يشغلك عن فهم معاني قراءتك فهو وسواس ، فإن حركة اللسان غير مقصودة ، بل المقصود معانيها ، فإذا قلت : ( دعاء الاستفتاح بسم الله الرحمن الرحيم ) فانو به التبرك لابتداء القراءة لكلام الله سبحانه وافهم أن معناها أن الأمور كلها بالله سبحانه ، وإذا كانت الأمور به تعالى فلا جرم كان ( الحمد لله رب العالمين ) ، ومعناه أن الشكر لله إذ النعم من الله ، ومن يرى من غير الله نعمة أو يقصد غير الله سبحانه بشكره لا من حيث إنه مسخر من الله عز وجل ففي تسميته وتحميده نقصان بقدر التفاته إلى غير الله تعالى . فإذا قلت : ( الرحمن الرحيم ) فأحضر في قلبك جميع أنواع لطفه لتتضح لك رحمته فينبعث به رجاؤك ، ثم استثر من قلبك التعظيم والخوف بقولك : ( مالك يوم الدين ) ، أما العظمة فلأنه لا ملك إلا له ، وأما الخوف فلهول يوم الجزاء والحساب الذي هو مالكه ، ثم جدد الإخلاص بقولك : ( إياك نعبد ) وجدد العجز والاحتياج والتبرؤ من الحول والقوة بقولك : ( وإياك نستعين ) ، وتحقق أنه ما تيسرت طاعتك إلا بإعانته ، وأن له المنة إذ وفقك لطاعته . ثم عين سؤالك ولا تطلب إلا أهم حاجتك وقل : ( اهدنا الصراط المستقيم ) الذي يسوقنا إلى جوارك ويفضي بنا إلى مرضاتك ، وزده شرحا وتفصيلا وتأكيدا واستشهادا بالذين أفاض عليهم نعمة الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين . ثم التمس الإجابة وقل : " آمين " . ولو لم يكن لك من صلاتك حظ سوى ذكر الله في جلاله وعظمته فناهيك بذلك غنيمة ، فكيف بما ترجوه من ثوابه وفضله . وكذلك فلا تغفل عن أمره ونهيه ووعده ووعيده ومواعظه وأخبار أنبيائه وذكر منته وإحسانه ، ولكل واحد حق : فالرجاء حق الوعد ، والخوف حق الوعيد ، والعزم حق الأمر والنهي ، والاتعاظ حق الموعظة ، والشكر حق المنة ، والاعتبار حق أخبار الأنبياء ; وتكون هذه المعاني بحسب درجات الفهم ، ويكون الفهم بحسب وفور العلم وصفاء القلب ، ودرجات ذلك لا تنحصر ، والصلاة مفتاح القلوب فيها تنكشف أسرار الكلمات فهذا حق القراءة وهو حق الأذكار والتسبيحات أيضا ، ثم يراعي الهيبة في القراءة فيرتل ولا يسرد فإن ذلك أيسر للتأمل . ينبغي أن تفهم ما تقرؤه من السور