[ ص: 184 ]
صاح بي الشيب لا مقام وبين الرجعة السقام صوتان قد أزعجا وحثا
عمري وراعني الحمام لا آمن الدهر والمنايا
إذ كل عمر له انصرام
حدثنا عبد الله بن محمد قال : قرأت في كتاب ابن حاتم العلكي : حدثكم عبد الجبار ، عن المغيرة بن سهل ، عن الربيع بن صبيح ، عن الحسن قال : كان في زمن فتى يتنسك ويلزم المسجد فعشقته جارية فجاءته فكلمته سرا فقال : يا نفس تكلمينها سرا فتلقين الله زانية ؟ فصرخ صرخة غشي عليه فجاء عم له فحمله إلى منزله فلما أفاق قال له : يا عم الق عمر بن الخطاب عمر فاقرأ عليه مني السلام وقل له : ؟ فقال : وعليك السلام جزاؤه جنتان جزاؤه جنتان . ما جزاء من خاف مقام ربه
حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر الدينوري المفسر ، ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي قال : سمعت ، يقول : " بينا أنا في سواد ذا النون مصر إذا أنا بأسود ، تقاس دقة ساقيه بالخلال في نحافته فدنوت منه فسلمت عليه فقال : وعليك السلام يا ، قلت : عافاك الله ذا النون ثم أنشأ يقول : كيف عرفتني ولم أتعاهدك قبل اليوم ؟ قال : يا بطال اتصلت المعرفة بحركات العارفين فعرفتك بمعرفة المحبوب
إن عرفان ذي الجلال لعز وبهاء وبهجة وسرور
وعلى العارفين أيضا بهاء وعليهم من الجلالة نور
فهنيئا لمن أطاعك ربي فهو في الخير كله مغمور
ليس للخائفين غيرك ربي أنت سؤلي ومنيتي يا غفور
حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد المفسر ، ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي قال : قال أبو عامر : " كنت جالسا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بغلام أسود قد جاءني برقعة فنظرت فيها فإذا فيها مكتوب : بسم الله الرحمن الرحيم : متعك الله بمسامرة الفكرة ونعمك بمؤانسة العبرة وأفردك بحب الخلوة أنا رجل من إخوانك ، بلغني قدومك المدينة فسررت [ ص: 185 ] بذلك فأحببت زيارتك ، فحجبت عن ذلك ، فالتمست مخرج العذر من كتاب الله ، فوجدت الله قد منحني ثلاث خصال : أذهب عني حرج أهلها وبي من الشوق إلى مجالستك ، والاستماع لمحادثتك ما لو كان فوقي لأظلني ، ولو كان تحتي لأقلني ، فأسألك إلا ألحفتني جناح المتفضل علي بزيارتك ، والسلام .
قال أبو عامر : فقمت مع الغلام حتى أتى بي منزلا رحبا خربا ، فقال لي : قف حتى أستأذن لك ، فوقفت حتى خرج فقال لي : لج ، فدخلت فإذا أنا ببيت له باب من جريد النخل ، فإذا أنا بكهل مستقبل القبلة تخاله من الورع مكروبا ، ومن الخشية محزونا قد ظهرت في وجهه أحزانه ، وقد قرحت من البكاء عيناه ، ومرضت أجفانه ، فسلمت عليه فرد علي السلام ثم تخلخل فلم يطق القيام فإذا هو أعرج أعمى مسقام فقال لي : متع الله بالأحزان لبك ، وغسل من ران الذنوب قلبك ، لم تزل نفسي إليك مشتاقة ، وقلبي إليك تواقا ، وبي جرح قد أعيا الناس دواؤه والمتطببين شفاؤه فلا قاله أجود الترياق ، وإن كان مر المذاق فإني ممن . أصبر على مضض الدواء ، مخافة ما يتوقع من عظيم البلاء
قال : فسمعت كلاما حسنا ورأيت منظرا أفظعني فأطرقت طويلا ثم تأتى من كلامي ما تأتى فقلت : يا شيخ ، ارم ببصر قلبك في ملكوت السماء فتمثل بحقيقة إيمانك جنة المأوى فسترى ما أعد الله فيه للأولياء ، ثم أشرف بقلبك نارا تتلظى فسترى ما أعد فيها للأشقياء ، شتان ما بين المنزلتين والدارين شتان ، أليس الفريقان في الموت سواء ؟ قال : فأن أنة وزفر زفرة والتوى ثم قال : قد وقع دواؤك على دائي وقد علمت أن عندك شفائي ، زدني يرحمك الله ، فقلت : إنه عالم بخفياتك مطلع على سرائرك ، قال : فصرخ صرخة خر ميتا . فإذا أنا بجارية قد رفعت العباءة عليها جبة من صوف قد أقرح السجود حاجبيها وأنفها فلما نظرت إلي قالت : أحسنت يا هادي قلوب العارفين ، ومثير أحزان المحزونين ، لا أنسى لك هذا الموقف ورب العالمين ، هذا أبي مبتلى منذ عشرين سنة : صلى حتى انحنى وصام حتى أقعد ، وبكى حتى عمي ، وكان يتمناك على ربه عز وجل ، ويقول : سمعت كلام أبي عامر [ ص: 186 ] مرة فأحيا الله موات قلبي فإن سمعته ثانيا قتلني ، قال أبو عامر : فرأيته في المنام بعد ليال كأنه في روضة من رياض الجنة فقلت له : ما صنع الله بك ؟ قال : غفر لي ، وأنشأ يقول :
أنت شريكي في الذي نلته مستأهلا ذاك أبا عامر
وكل من أيقظ ذا غفلة فنصف ما يعطاه للآمر
من رد عبدا آبقا مرة كان كالمجتهد الصابر
حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا إسحاق بن إبراهيم ، ثنا ، ثنا أحمد بن أبي الحواري أبو قرة قال : " ؟ اللهم ، إني أسألك أن تسكن عظمتك قلبي وأن تسقيني شربة من كأس حبك " . كان بعض التابعين يقول : اللهم ، أنت تعطيني من غير أن أسألك فكيف تحرمني وأنا أسألك
قال : وحدثنا أحمد بن أبي الحواري جعفر بن محمد قال : . كان بعض التابعين يقول : اللهم أمت قلبي بخوفك وخشيتك وأحيه بحبك وذكرك
حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا الفضيل بن أحمد ، ثنا أبو حاتم ، ثنا محمد بن هشام قال : سمعت رجلا ، قام في مسجد الخيف ليالي منى ليلا فنادى : ولا تردنا وإياهم خائبين . يا رب العالمين أتاك الخاطئون طامعين في رحمتك راجين تائبين فاقبلنا وإياهم مغفورين
حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أحمد بن نصر قال : قال إبراهيم بن الجنيد : كان بعض العباد يقول : " أحيوا قلوبكم بذكر الله ، وأميتوها بالخشية ، ونوروها بحب الله ، وفرحوها بالشوق إليه ، واعلموا أنكم بالمحبة ترتفعون ، وبالمغفرة ترهبون ، وبالشوق ترغبون ، وبحسن النية تقهرون الهوى ، وبترك الشهوات تصفو أعمالكم حتى يورثكم ملكوت السماوات في عليين ، فمن أراد منكم الراحة فليعمل في منازل أهل المحبة . وإن في ساعات الليل والنهار بالقلب واللسان ، فإن أمسك اللسان فالقلب ، فإن ذكر القلب أبلغ وأنفع . من أخلاق أهل محبة الله كثرة الذكر
قال إبراهيم بن الجنيد : قال بعض العباد : وجدت الله غيورا يمنعني من كل من أرجوه ، وإذا سبح قلبي في مودته أجرى [ ص: 187 ] ذكره على لساني فواشوقاه ثم واشوقاه ، ثم خر مغشيا عليه " .
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا أبو الطيب أحمد بن روح ، ثنا عبد الله بن خبيق ، ثنا سعيد بن عبد الرحمن قال : كنت في مجلس وقد نفد بعض نفقتي في بعض الأسفار فقال بعض أصحاب الحديث : من تؤمل لما نزل بك ؟ قلت : يزيد بن هارون ، قال : إذا لا تقضى حاجتك ولا تنجح طلبتك قال : وما علمك ؟ قال : لأني قرأت أن الله تعالى يقول : " وعزتي وجلالي وجودي وكرمي وارتفاعي في مكاني يزيد بن هارون ، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس ، ولأنحينه من قربي ، ولأبعدنه من وصلي ، أيؤمل غيري في الشدائد ، والشدائد بيدي ويرجو غيري ويقرع بالفقر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب ، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني ، من ذا الذي أملني لنوائبه فقطعت به دونها ؟ ومن ذا الذي رجاني لعظيم جرمه فقطعت رجاءه ؟ ومن ذا الذي دعاني فلم أفتح له ؟ جعلت آمال عبادي متصلة بي فقطعت من غيري ، وجعلت رجاءهم مدخرا عندي فلم يرضوا بحفظي ، وملأت سماواتي ممن لا يملون من تسبيحي ، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي ، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد إلا بإذني؟ فما لي أراه بآماله معرضا عني ؟ وما لي أراه لاهيا عني ؟ أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته منه ولم يسألني رده وسأل غيري ، أنا أبدأ بالعطية قبل أن أسأل ، ثم أسأل فلا أخيب سائلي ، أبخيل أنا فيبخلني عبادي ؟ أوليس الدنيا والآخرة لي ؟ أوليس الفضل والرحمة بيدي ؟ أوليس الجود والكرم لي ؟ أوليس أنا محل الآمال ؟ فمن يقطعها دوني ، أوما يحسن المؤملون أن يؤملوني ؟ ولو جمعت أهل سماواتي وأرضي فأعطيت كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع فقلت لهم : أملوني فأملوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته لم ينقص مما عندي عضو ذرة ، وكيف ينقص ملك أنا قيمه ؟ فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ، ويا سوأة من عصاني فلم يراقبني " . لأقطعن أمل كل مؤمل يؤمل غيري بالإياس
حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي قال : سمعت أحمد [ ص: 188 ] ابن موسى الأنصاري قال : قال : " حججت حجة فنزلت سكة من سكك منصور بن عمار الكوفة فخرجت في ليلة مظلمة طخياء مطلخمة مستحلكة ، ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل ، ولكن خطيئتي عرضت وأعانني عليها شقائي ، وغرني سترك المرخي علي ، وقد عصيتك بجهدي ، وخالفتك بجهلي فإلى من أحتمي ؟ ومن من عذابك يستنقذني ؟ وبحبل من أتصل إذا أنت قطعت حبلك عني ؟ واشباباه واشباباه ، فلما فرغ من قوله تلوت عليه آية من كتاب الله : ( فإذا أنا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول : إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ) الآية ، فسمعت دكدكة لم أسمع بعدها حسا فمضيت فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي ، فإذا أنا بجنازة قد أخرجت ، وإذا أنا بعجوز قد ذهب متنها يعني قوتها ، فسألتها عن أمر الميت ولم تكن عرفتني فقالت : هذا رجل لا جزاه الله إلا جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي فتلا آية من كتاب الله فتفطرت مرارته فوقع ميتا " .
قال : حدث إبراهيم بن أبي طالب النيسابوري ابن أبي الدنيا ، عن محمد بن إسحاق الثقفي بهذه الحكاية ، وحدثنا أبي ، ثنا خالي أحمد بن محمد بن يوسف ، عن أبيه ، عن شيخ له قال : " خرجت في ليلة من الليالي ، وظننت أن النهار قد أضاء فإذا الصبح علي فقعدت إلى دهليز مشرف فإذا أنا بصوت شاب يدعو ويبكي وهو يقول : اللهم وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولا بنظرك مستخف ، ولكن سولت لي نفسي فأعانتني عليها شقوتي وغرني سترك المرخي علي فقد عصيتك وخالفتك بجهلي فمن من عذابك يستنقذني ؟ ومن أيدي زبانيتك من يخلصني ؟ وبحبل من أتصل إذا أنت قطعت حبلك عني ؟ واسوأتاه إذا قيل للمخفين : جوزوا ، وللمثقلين حطوا ، فيا ليت شعري مع المثقلين نحط أم مع المخفين نجوز وننجو ؟ كلما طال عمري وكبر سني كثرت ذنوبي وكثرت خطاياي ، فيا ويلي كم أتوب وكم أعود ولا أستحيي من ربي . قال منصور بن عمار منصور : فلما سمعت هذا الكلام ، وضعت فمي على باب داره ، وقلت : أعوذ [ ص: 189 ] بالله من الشيطان الرجيم : بسم الله الرحمن الرحيم ( قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ) الآية ، قال منصور : ثم سمعت للصوت اضطرابا شديدا وسكن الصوت فقلت : إن هناك بلية ، فعلمت على الباب علامة ومضيت لحاجتي فلما رجعت من الغد إذ أنا بجنازة منصوبة وأكفان تصلح وعجوز تدخل الدار وتخرج باكية ، فقلت : يا أمة الله من هذا الميت منك ؟ قالت : إليك عني لا تجدد علي أحزاني ، قلت : إني رجل غريب أخبريني ، قالت : والله لولا أنك غريب ما أخبرتك هذا ولدي ومن زل عن كبدي ومن كنت أظن به سيدعو لي من بعدي كان ولدي من موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا جن عليه قام في محرابه يبكي على ذنوبه وكان يعمل هذا الخوص فيقسم كسبه أثلاثا : فثلث يطعمني ، وثلث للمساكين ، وثلث يفطر عليه ، فمر علينا البارحة رجل لا جزاه الله خيرا فقرأ عند ولدي آية فيها ذكر النار فلم يزل يضطرب ويبكي حتى مات رحمه الله . قال منصور : فهذه إذا خافوا السطوة . صفة الخائفين
قال الشيخ رضي الله تعالى عنه : قد ذكرنا طرفا من أحوال من أخفاهم الحق عن الخلق ، وخصهم بالأنس به ولم ينصبهم أعلاما يقتدى بهم ، ونعود إلى ذكر بعض من نصبهم الحق للقدوة والتعليم والدعوة والتفهيم ، وجعلهم خلفاء الأنبياء وأئمة الأصفياء مقتصرين على ذكر جماعة منهم ، والله خير معين وموفق له إن شاء الله تعالى .
عدنا مستعينين بالله عز وجل مقتصرين على ذكر جماعة نصبوا وشهروا للقدوة ، وطهروا من الأكدار وجردوا من الأغيار ، وهذبوا بصحبة السادة والأخيار ، واقتبسوا عن الأئمة من اتباع الآثار ، وأيدوا بالأنوار ، وحفظوا من تلوين الأسرار ، وخصوا بصافي الأذكار وعصموا من مسامرة الأشرار وملاحظة الأوزار .