أما قوله : ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : الكاف في قوله : ( كالذي ) فيه قولان :
الأول : أنه متعلق بمحذوف والتقدير لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس ، فبين تعالى أن المن والأذى يبطلان الصدقة ، كما أن النفاق والرياء يبطلانها ، وتحقيق القول فيه أن ، ومن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضا ، إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما من على الفقير ولا آذاه ، فثبت اشتراك الصورتين في كون تلك الصدقة ما أتى بها لوجه الله تعالى ، وهذا يحقق ما قلنا أن المقصود من الإبطال الإتيان به باطلا ، لا أن المقصود الإتيان به صحيحا ، ثم إزالته وإحباطه بسبب المن والأذى . يقرن الصدقة بالمن والأذى
والقول الثاني : أن يكون الكاف في محل النصب على الحال ، أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق ماله رئاء الناس .
المسألة الثانية : الرياء مصدر ، كالمراءاة يقال : راءيته رياء ومراءاة ، مثل : راعيته مراعاة ورعاء ، وهو أن ترائي بعملك غيرك ، وتحقيق الكلام في الرياء قد تقدم ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا المثل أتبعه بالمثل الثاني ، فقال : ( فمثله ) وفي هذا الضمير وجهان :
أحدهما : أنه عائد إلى المنافق ، فيكون المعنى أن الله تعالى شبه المان والمؤذي بالمنافق ، ثم شبه المنافق بالحجر ، ثم قال : ( كمثل صفوان ) وهو الحجر الأملس ، وحكى أبو عبيد عن الأصمعي أن الصفوان والصفا والصفوا واحد ، وكل ذلك مقصور ، وقال بعضهم : الصفوان جمع [ ص: 48 ] صفوانة ، كمرجان ومرجانة ، وسعدان وسعدانة ، ثم قال : ( فأصابه وابل ) الوابل المطر الشديد ، يقال : وبلت السماء تبل وبلا ، وأرض موبولة ، أي أصابها وابل ، ثم قال : ( فتركه صلدا ) الصلد الأملس اليابس ، يقال : حجر صلد وجبل صلد ، إذا كان براقا أملس ، وأرض صلدة أي لا تنبت شيئا كالحجر الصلد ، وصلد الزند إذا لم يور نارا .
واعلم أن هذا ، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالا ، كما يرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل ؛ لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب ، وأما مثل ضربه الله تعالى لعمل المان المؤذي ، ولعمل المنافق المعتزلة فقالوا : إن المعنى أن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ، ثم إن المن والأذى أزالا ذلك الأجر ، كما يزيل الوابل التراب عن وجه الصفوان .
واعلم أن في كيفية هذا التشبيه وجهين :
الأول : ما ذكرنا أن العمل الظاهر كالتراب ، والمان والمؤذي والمنافق كالصفوان يوم القيامة ، هذا على قولنا ، وأما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل .
الوجه الثاني في التشبيه ، قال القفال - رحمه الله تعالى - : وفيه احتمال آخر ، وهو أن ، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذرا في أرض فهو يضاعف له وينمو حتى يحصده في وقته ، ويجده وقت حاجته ، والصفوان محل بذر المنافق ، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء ولا يكون فيه قبول للبذر ، والمعنى أن عمل المان والمؤذي والمنافق يشبه إذا طرح بذرا في صفوان صلد عليه غبار قليل ، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودعا بذره خاليا لا شيء فيه ، ألا ترى أنه تعالى ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة ، والجنة ما يكون فيها أشجار ونخيل ، فمن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة كان كمن غرس بستانا في ربوة من الأرض ، فهو يجني ثمر غراسه في أوجات الحاجة وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها متضاعفة زائدة ، وأما عمل المان والمؤذي والمنافق ، فهو كمن بذر في الصفوان الذي عليه تراب ، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئا . ومن الملحدة من طعن في التشبيه ، فقال : إن الوابل إذا أصاب الصفوان جعله طاهرا نقيا نظيفا عن الغبار والتراب فكيف يجوز أن يشبه الله به عمل المنافق ؟ . أخلص لله تعالى
والجواب : أن وجه التشبيه ما ذكرناه ، فلا يعتبر باختلافها فيما وراءه .
قال القاضي : وأيضا فوقع التراب على الصفوان يفيد منافع من وجوه :
أحدها : أنه أصلح في الاستقرار عليه .
وثانيها : الانتفاع به في التيمم .
وثالثها : الانتفاع به فيما يتصل بالنبات . وهذا الوجه الذي ذكره القاضي حسن إلا أن الاعتماد على الأول .
أما قوله تعالى : ( لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) فاعلم أن الضمير في قوله : ( لا يقدرون ) إلى ماذا يرجع ؟ فيه قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى معلوم غير مذكور ، أي : لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان ؛ لأنه زال ذلك التراب وذلك ما كان فيه ، فلم يبق لأحد قدرة على الانتفاع بذلك البذر ، وهذا يقوي الوجه الثاني في التشبيه الذي ذكره القفال - رحمه الله تعالى - وكذا المان والمؤذي والمنافق لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة .
والثاني : أنه عائد إلى قوله : ( كالذي ينفق ماله ) وخرج على هذا المعنى ؛ لأن قوله : ( كالذي ينفق ماله ) إنما أشير به إلى الجنس ، والجنس في حكم العام .
قال القفال - رحمه الله - : وفيه وجه ثالث ، وهو أن يكون ذلك مردودا على قوله : ( لا ) [ ص: 49 ] ( تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم ، فرجع عن الخطاب إلى الغائب ، كقوله تعالى : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) [يونس : 22] .
ثم قال [تعالى] : ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) ومعناه على قولهم : سلب الإيمان ، وعلى قول المعتزلة : إنه تعالى يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسوء اختيارهم .