ثم اعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين دعاءهم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء مخ العبادة " لأن الداعي يشاهد نفسه في مقام الفقر والحاجة والذلة والمسكنة ويشاهد جلال الله تعالى وكرمه وعزته وعظمته بنعت الاستغناء والتعالي ، وهو المقصود من جميع العبادات والطاعات ، فلهذا السبب ختم هذه السورة الشريفة المشتملة على هذه العلوم العظيمة بالدعاء والتضرع إلى الله , والكلام في حقائق الدعاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) [ البقرة : 186 ] فقال : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء ، وذكر في مطلع كل واحد منها قوله : ( ربنا ) إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله : ( واعف عنا واغفر لنا ) .
أما النوع الأول فهو قوله : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا ، وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد ؛ لأن الناسي قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ، فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة ، فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم ، فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو ، فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به ، فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة .
المسألة الثانية : في النسيان وجهان :
الأول : أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر .
فإن قيل : أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " وما استكرهوا عليه رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " فإذا كان النسيان في محل العفو قطعا فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء ؟
والجواب عنه من وجوه :
الأول : أن ألا ترى أن من رأى في ثوبه دما فأخر إزالته إلى أن نسي فصلى وهو على ثوبه عد مقصرا ، إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه ، ومن رمى صيدا في موضع فأصاب إنسانا فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره ، فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوما أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنسانا كان ههنا معذورا ، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون [ ص: 126 ] ملوما ، وأما إذا واظب على القراءة ، لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذورا ، فثبت أن النسيان على قسمين : منه ما يكون معذورا ، ومنه ما لا يكون معذورا ، وروي النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ، ومنه ما لا يعذر أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطا في أصبعه . فثبت بما ذكرنا أن ، وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر ، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء . الناسي قد لا يكون معذورا
الوجه الثاني في الجواب : أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته ، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعارا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل : إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به .
الوجه الثالث في الجواب : أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى ، لا طلب الفعل ، ولذلك فإن الداعي كثيرا ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع ، قال الله تعالى : ( قال رب احكم بالحق ) [ الأنبياء : 112 ] وقال : ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة ) [ آل عمران : 194 ] وقالت الملائكة في دعائهم : ( فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) [ غافر : 7 ] فكذا في هذه الآية . العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء
الوجه الرابع في الجواب : أن ، وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذا فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر ، فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس ، فلما كان ذلك جائزا في العقول ، لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء . مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلا
الوجه الخامس : أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا : الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل ، فلولا أنه جائز عقلا من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه .
والقول الثاني : في تفسير النسيان ، أن يحمل على الترك ، قال الله تعالى : ( فنسي ولم نجد له عزما ) [ طه : 115 ] ، وقال تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) [ التوبة : 67 ] أي تركوا العمل لله فتركهم ، ويقول الرجل لصاحبه : لا تنسني من عطيتك ، أي لا تتركني ، فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد ، والمراد بالخطأ ، أن يفعل الفعل لتأويل فاسد .
المسألة الثالثة : علم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي ، أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر ، فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على ؛ لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلا في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم : ( حصول العفو لأصحاب الكبائر لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) فكان ذلك أمرا من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي ، ولما أمرهم بطلب ذلك ، دل على أنه يعطيهم هذا المطلوب ، وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر .
وأما القسم الثاني والثالث فباطلان ؛ لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم ، وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء .
[ ص: 127 ] فإن قيل : الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصدا وعمدا على ما قررتم في المسألة المتقدمة .
قلنا : فهو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصدا وعمدا ، فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه عمدا ، وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر.