( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون )
قوله تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون )
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى الوجوه التي هي الموجبات والمؤثرات في مداولة الأيام ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصلي لذلك ، فقال ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ) بدون تحمل المشاق ؟ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أم : منقطعة ، وتفسير كونها منقطعة تقدم في سورة البقرة . قال أبو مسلم : في أم حسبتم إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [العنكبوت : 1 2] وافتتح الكلام بذكر " أم " التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه ، يقولون : أزيدا ضربت أم عمرا ؟ ، مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما ، قال : وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا ، [ ص: 17 ] فلما قال : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا ) [آل عمران : 139] كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر ، وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها ، وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا ، فلما كان كذلك ، فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة .
المسألة الثانية : قال الزجاج : إذا قيل فعل فلان ، فجوابه أنه لم يفعل ، وإذا قيل قد فعل فلان ، فجوابه لما يفعل . لأنه لما أكد في جانب الثبوت بقد ، لا جرم أكد في جانب النفي بكلمة "لما" .
المسألة الثالثة : ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم ، والمراد وقوعه على نفي المعلوم ، والتقدير : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم ، وتقريره أن العلم متعلق بالمعلوم ، كما هو عليه ، فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم . حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر ، وتمام الكلام فيه قد تقدم .
أما قوله : ( ويعلم الصابرين ) فاعلم أنه قرأ الحسن ( ويعلم الصابرين ) بالجزم عطفا على ( ولما يعلم الله ) وأما النصب فبإضمار أن ، وهذه الواو تسمى واو الصرف ، كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، أي لا تجمع بينهما ، وكذا هاهنا المراد أن ، وقرأ دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان أبو عمرو ( ويعلم ) بالرفع على تقدير أن الواو للحال . كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون .
واعلم أن حاصل الكلام أن ، فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر ، وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا ، والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله ، وهذان الأمران مما لا يجتمعان ، فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما ، وأيضا حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة ، فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا ، ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحبوبات ، فإن الحب هو الذي لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء ، فإن بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقيا ، فلهذه الحكمة قال : ( حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ) بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة والله أعلم .