( هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون )
ثم قال تعالى : ( هم درجات عند الله ) وفيه مسائل .
المسألة الأولى : تقدير الكلام : لهم درجات عند الله ، إلا أنه حسن هذا الحذف ؛ لأن اختلاف [ ص: 62 ] أعمالهم قد صيرتهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها . فكان هذا المجاز أبلغ من الحقيقة ، والحكماء يقولون : إن النفوس الإنسانية مختلفة بالماهية والحقيقة ، فبعضها ذكية وبعضها بليدة ، وبعضها مشرقة نورانية ، وبعضها كدرة ظلمانية ، وبعضها خيرة ، وبعضها نذلة ، واختلاف هذه الصفات ليس لاختلاف الأمزجة البدنية ، بل لاختلاف ماهيات النفوس ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " " وقال : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " وإذا كان كذلك ثبت أن الناس في أنفسهم درجات ، لا أن لهم درجات . الأرواح جنود مجندة
المسألة الثانية : هم : عائد إلى لفظ "من" في قوله : ( أفمن اتبع رضوان الله ) ولفظ "من" يفيد الجمع في المعنى ، فلهذا صح أن يكون قوله : ( هم ) عائدا إليه ، ونظيره قوله : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) فإن قوله : ( يستوون ) صيغة الجمع وهو عائد إلى "من" .
المسألة الثالثة : هم : ضمير عائد إلى شيء قد تقدم ذكره ، وقد تقدم ذكر من اتبع رضوان الله ، وذكر من باء بسخط من الله ، فهذا الضمير يحتمل أن يكون عائدا إلى الأول ، أو إلى الثاني ، أو إليهما معا ، والاحتمالات ليست إلا هذه الثلاثة .
الوجه الأول : أن يكون عائدا إلى ( أفمن اتبع رضوان الله ) وتقديره : أفمن اتبع رضوان الله سواء ، لا بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم ، والذي يدل على أن هذا الضمير عائد إلى من اتبع الرضوان وأنه أولى ، وجوه :
الأول : أن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب ، والدركات في أهل العقاب .
الثاني : أنه تعالى وصف من باء بسخط من الله ، وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير ، فوجب أن يكون قوله : ( هم درجات ) وصفا لمن اتبع رضوان الله .
الثالث : أن عادة القرآن في الأكثر جارية بأن ما كان من الثواب والرحمة فإن الله يضيفه إلى نفسه ، وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه ، قال تعالى : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) [الأنعام : 54] وقال : ( كتب عليكم القصاص ) [البقرة : 178] ( كتب عليكم الصيام ) [البقرة : 183] فلما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه حيث قال : ( هم درجات عند الله ) علمنا أن ذلك صفة أهل الثواب .
ورابعها : أنه متأكد بقوله تعالى : ( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) [الإسراء : 21] .
والوجه الثاني : أن يكون قوله : ( هم درجات ) عائدا على ( كمن باء بسخط من الله ) والحجة أن الضمير عائد إلى الأقرب وهو قول الحسن ، قال : والمراد أن ، وهو كقوله : ( أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب ولكل درجات مما عملوا ) [الأنعام : 132] وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبو طالب في ضحضاحها " وقال عليه الصلاة والسلام " إن فيها ضحضاحا وغمرا ، وأنا أرجو أن يكون ؟!" . إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرهما دماغه ينادي يا رب ، وهل أحد يعذب عذابي
الوجه الثالث : أن يكون قوله : ( هم ) عائدا إلى الكل ، وذلك لأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، ودرجات أهل العقاب أيضا متفاوتة على حسب تفاوت أعمال الخلق ؛ لأنه تعالى قال : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [الزلزلة : 7 8] فلما تفاوتت مراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات وجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب . [ ص: 63 ] المسألة الرابعة : قوله : ( عند الله ) أي في حكم الله وعلمه ، فهو كما يقال : هذه المسألة عند كذا ، وعند الشافعي كذا ، وبهذا يظهر فساد استدلال المشبهة بقوله : ( أبي حنيفة ومن عنده لا يستكبرون ) [الأنبياء : 19] وقوله : ( عند مليك مقتدر ) [القمر : 55] .