المسألة الخامسة : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر من وجوه : الأول : أن هذا الإملاء عبارة عن إطالة المدة ، وهي لا شك أنها من فعل الله تعالى ، والآية نص في بيان أن هذا الإملاء ليس بخير ، وهذا يدل على . أنه سبحانه فاعل الخير والشر
الثاني : أنه تعالى نص على أن المقصود من هذا الإملاء هو أن يزدادوا من الإثم والبغي والعدوان ، وذلك يدل على أن ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : ( الكفر والمعاصي بإرادة الله ولهم عذاب مهين ) أي إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب مهين .
الثالث : أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا خير لهم في هذا الإملاء ، وأنهم لا يحصلون إلا على ازدياد البغي والطغيان ، والإتيان بخلاف مخبر الله تعالى مع بقاء ذلك الخير جمع بين النقيضين وهو محال ، وإذا لم يكونوا قادرين مع ذلك الإملاء على الخير والطاعة مع أنهم مكلفون بذلك لزم في نفسه بطلان مذهب القوم . قالت المعتزلة :
أما الوجه الأول : فليس المراد من هذه الآية أن هذا الإملاء ليس بخير ، إنما المراد أن هذا الإملاء ليس خيرا لهم من أن يموتوا كما مات الشهداء يوم أحد ، لأن كل هذه الآيات في شأن أحد وفي تثبيط المنافقين المؤمنين عن الجهاد على ما تقدم شرحه في الآيات المتقدمة ، فبين تعالى أن إبقاء الكافرين في الدنيا وإملاءه لهم ليس بخير لهم من أن يموتوا كموت الشهداء ، ولا يلزم من نفي كون هذا الإملاء أكثر خيرية من ذلك القتل ، أن لا يكون هذا الإملاء في نفسه خيرا .
[ ص: 88 ] وأما الوجه الثاني : فقد قالوا : ليس المراد من الآية أن الغرض من الإملاء إقدامهم على الكفر والفسق ، بدليل قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] وقوله : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) [ النساء : 64 ] بل الآية تحتمل وجوها من التأويل :
أحدها : أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة كقوله تعالى : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) [ القصص : 8 ] وقوله : ( ولقد ذرأنا لجهنم ) [ الأعراف : 179 ] وقوله : ( وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله ) [ إبراهيم : 30 ] وهم ما فعلوا ذلك لطلب الإضلال ، بل لطلب الاهتداء ، ويقال : ما كانت موعظتي لك إلا لزيادة في تماديك في الفسق إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك .
وثانيها : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم .
وثالثها : أنه تعالى لما أمهلهم مع علمه بأنهم لا يزدادون عند هذا الإمهال إلا تماديا في الغي والطغيان ، أشبه هذا حال من فعل الإملاء لهذا الغرض ، والمشابهة أحد أسباب حسن المجاز .
ورابعها : وهو السؤال الذي ذكرته للقوم وهو أن اللام في قوله : ( ليزدادوا إثما ) غير محمول على الغرض بإجماع الأمة ، أما على قول أهل السنة فلأنهم يحيلون تعليل أفعال الله بالأغراض ، وأما على قولنا فلأنا لا نقول بأن فعل الله معلل بغرض التعب والإيلام ، بل عندنا ، وإذا كان كذلك فقد حصل الإجماع على أن هذه اللام غير محمولة على التعليل والغرض ، وعند هذا يسقط ما ذكرتم من الاستدلال ، ثم بعد هذا قول القائل : ما المراد من هذه اللام ؟ غير ملتفت إليه ، لأن المستدل إنما بنى استدلاله على أن هذه اللام للتعليل ، فإذا بطل ذلك سقط استدلاله . أنه تعالى لم يفعل فعلا إلا لغرض الإحسان
وأما الوجه الثالث : وهو الإخبار والعلم فهو معارض بأن هذا لو منع العبد من الفعل لمنع الله منه ، ويلزم أن يكون الله موجبا لا مختارا ، وهو بالإجماع باطل .
والجواب عن الأول : أن قوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير ) معناه نفي الخيرية في نفس الأمر ، وليس معناه أنه ليس خيرا من شيء آخر ، لأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا عند ذكر الراجح والمرجوح ، فلما لم يذكر الله ههنا إلا أحد الأمرين عرفنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر .
وأما السؤال الثاني : وهو تمسكهم بقوله : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] وبقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع ) [ النساء : 64 ] .
فجوابه : أن الآية التي تمسكنا بها خاص ، والآية التي ذكرتموها عام ، والخاص مقدم على العام .
وأما السؤال الثالث : وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو عدول عن الظاهر ، وأيضا فإن البرهان العقلي يبطله ; لأنه تعالى لما علم أنهم لا بد وأن يصيروا موصوفين بازدياد الغي والطغيان ، كان ذلك واجب الحصول لأن حصول معلوم الله واجب ، وعدم حصوله محال ، وإرادة المحال محال ، فيمتنع أن يريد منهم الإيمان ، ويجب أن يريد منهم ازدياد الغي والطغيان ، وحينئذ ثبت أن المقصود هو التعليل وأنه لا يجوز المصير إلى لام العاقبة .
وأما السؤال الرابع : وهو التقديم والتأخير .
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن التقديم والتأخير ترك للظاهر .
وثانيها : قال الواحدي [ ص: 89 ] - رحمه الله - : هذا إنما يحسن لو جازت قراءة " إنما نملي لهم خير لأنفسهم " بكسر " إنما " وقراءة ( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " بالفتح . ولم توجد هذه القراءة البتة .
وثالثها : أنا بينا بالبرهان القاطع العقلي أنه يجب أن يكون مراد الله من هذا الإملاء حصول الطغيان لا حصول الإيمان ، فالقول بالتقديم والتأخير ترك للظاهر والتزام لما هو على خلاف البرهان القاطع .
وأما السؤال الخامس : وهو قوله : هذه اللام لا يمكن حملها على التعليل .
فجوابه أن عندنا يمتنع تعليل أفعال الله لغرض يصدر من العباد ، فأما أن يفعل تعالى فعلا ليحصل منه شيء آخر فهذا غير ممتنع ، وأيضا قوله : ( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) تنصيص على أنه ليس المقصود من هذا الإملاء إيصال الخير لهم والإحسان إليهم ، والقوم لا يقولون بذلك ، فتصير الآية حجة عليهم من هذا الوجه .
وأما السؤال السادس : وهو المعارضة بفعل الله تعالى .
فالجواب : أن تأثير قدرة الله في إيجاد المحدثات متقدم على تعلق علمه بعدمه ، فلم يمكن أن يكون العلم مانعا عن القدرة . أما في حق العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلق علم الله بعدمه ، فصلح أن يكون هذا العلم مانعا للعبد عن الفعل ، فهذا تمام المناظرة في هذه الآية .
المسألة السادسة : اتفق أصحابنا أنه ليس لله تعالى في حق الكافر شيء من النعم الدينية ، وهل له في حقه شيء من النعم الدنيوية ، اختلف فيه قول أصحابنا ، فالذين قالوا ليس له في حقه شيء من النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية ، وقالوا : هذه الآية دالة على أن إطالة العمر وإيصاله إلى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة ، لأنه تعالى نص على أن شيئا من ذلك ليس بخير ، والعقل أيضا يقرره ؛ وذلك لأن من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فإنه لا يعد ذلك الإطعام إنعاما ، فإذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقية ، وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر ، وأنه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات إلا أن نقول : تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة ، والله أعلم .