المسألة الثالثة : دلت الآية على أن التفكر في دلائل الذات والصفات وأن أعلى مراتب الصديقين . التقليد أمر باطل لا عبرة به ولا التفات إليه
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء العباد الصالحين المواظبين على الذكر والفكر أنهم ذكروا خمسة أنواع من الدعاء :
[ ص: 113 ] النوع الأول : قوله : ( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية إضمار وفيه وجهان : قال الواحدي - رحمه الله - : التقدير : يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا ، وقال صاحب الكشاف : إنه في محال الحال بمعنى يتفكرون قائلين .
المسألة الثانية : " هذا " في قوله : ( ما خلقت هذا ) كناية عن المخلوق ، يعني ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا ، وفي كلمة " هذا " ضرب من التعظيم كقوله : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) [ الإسراء : 9 ] .
المسألة الثالثة : باطلا ) وجوه : في نصب قوله (
الأول : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي خلقا باطلا .
الثاني : أنه بنزع الخافض تقديره : بالباطل أو للباطل .
الثالث : قال صاحب الكشاف : يجوز أن يكون " باطلا " حالا من " هذا " .
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن كل ، والمراد منها رعاية مصالح العباد ، واحتجوا عليه بهذه الآية لأنه تعالى لو لم يخلق السماوات والأرض لغرض لكان قد خلقها باطلا ، وذلك ضد هذه الآية ، قالوا : وظهر بهذه الآية أن الذي تقوله المجبرة : إن الله تعالى أراد بخلق السماوات والأرض صدور الظلم والباطل من أكثر عباده وليكفروا بخالقها ، وذلك رد لهذه الآية ، قالوا : وقوله : ( ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد ولأجل الحكمة سبحانك ) تنزيه له عن خلقه لهما باطلا ، وعن كل قبيح . وذكر الواحدي كلاما يصلح أن يكون جوابا عن هذه الشبهة فقال : الباطل عبارة عن الزائل الذاهب الذي لا يكون له قوة ولا صلابة ولا بقاء ، وخلق السماوات والأرض خلق متقن محكم ، ألا ترى إلى قوله : ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ) [ الملك : 3 ] وقال : ( وبنينا فوقكم سبعا شدادا ) [ النبأ : 12 ] فكان المراد من قوله : ( ربنا ما خلقت هذا باطلا ) هذا المعنى ، لا ما ذكره المعتزلة .
فإن قيل : هذا الوجه مدفوع بوجوه :
الأول : لو كان المراد بالباطل الرخو المتلاشي لكان قوله ( سبحانك ) تنزيها له عن أن يخلق مثل هذا الخلق ، ومعلوم أن ذلك باطل .
الثاني : أنه إنما يحسن وصل قوله : ( فقنا عذاب النار ) به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه ؛ لأن التقدير : ما خلقته باطلا بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة ، وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك ، فقنا عذاب النار ، لأنه جزاء من عصى ولم يطع ، فثبت أنا إذا فسرنا قوله : ( ما خلقت هذا باطلا ) بما ذكرنا حسن هذا النظم ، أما إذا فسرناه بأنك خلقته محكما شديد التركيب لم يحسن هذا النظم .
الثالث : أنه تعالى ذكر هذا في آية أخرى فقال : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ) [ ص : 27 ] وقال في آية أخرى : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ) [ الدخان : 38 ، 39 ] وقال في آية أخرى : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) [ المؤمنون : 115 ] إلى قوله : ( فتعالى الله الملك الحق ) [ المؤمنون : 116 ] أي فتعالى الملك الحق عن أن يكون فعله عبثا ، وإذا امتنع أن يكون عبثا فبأن يمتنع كونه باطلا أولى .
والجواب : اعلم أن بديهة العقل شاهدة بأن ، وشاهده أن كل ممكن لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته ، وليس في هذه القضية تخصيص [ ص: 114 ] بكون ذلك الممكن مغايرا لأفعال العباد ، بل هذه القضية على عمومها قضية يشهد العقل بصحتها ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الخير والشر بقضاء الله . وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المراد من هذه الآية تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح . إذا عرفت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون تأويل الآية ما حكيناه عن الموجود إما واجب لذاته ، وإما ممكن لذاته الواحدي : قوله : ولو كان كذلك لكان قوله : ( سبحانك ) تنزيها له عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة وذلك باطل . قلنا : لم لا يجوز أن يكون المراد : ربنا ما خلقت هذا رخوا فاسد التركيب بل خلقته صلبا محكما ، وقوله ( سبحانك ) معناه أنك وإن خلقت السماوات والأرض صلبة شديدة باقية فأنت منزه عن الاحتياج إليه والانتفاع به ، فيكون قوله ( سبحانك ) معناه هذا .
قوله ثانيا : إنما حسن وصل قوله ( فقنا عذاب النار ) به إذا فسرناه بقولنا ، قلنا لا نسلم بل وجه النظم أنه لما قال : ( سبحانك ) اعترف بكونه غنيا عن كل ما سواه ، فعندما وصفه بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة فقال : ( فقنا عذاب النار ) وهذا الوجه في حسن النظم إن لم يكن أحسن مما ذكرتم لم يكن أقل منه ، وأما سائر الآيات التي ذكرتموها فهي دالة على أن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بكونها عبثا ولعبا وباطلا ، ونحن نقول بموجبه ، وإن أفعال الله كلها حكمة وصواب ، لأنه تعالى لا يتصرف إلا في ملكه ، فكان حكمه صوابا على الإطلاق ، فهذا ما في هذه المناظرة ، والله أعلم .
المسألة الخامسة : احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أنه سبحانه خلق هذه الأفلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة ، وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع سكان هذه البقعة الأرضية ، قالوا : لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ، وذلك رد للآية . قالوا : وليس لقائل أن يقول : الفائدة فيها الاستدلال بها على وجود الصانع المختار ، وذلك لأن كل واحد من كرات الهواء والماء يشارك الأفلاك والكواكب في هذا المعنى ، فحينئذ لا يبقى لخصوص كونه فلكا وشمسا وقمرا فائدة ، فيكون باطلا وهو خلاف هذا النص .
أجاب المتكلمون عنه : بأن قالوا : لم لا يكفي في هذا المعنى كونها أسبابا على مجرى العادة لا على سبيل الحقيقة .
أما قوله تعالى : ( سبحانك ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا إقرار ، يعني : أن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر ، وهو أن خالقها ما خلقها باطلا ، بل خلقها لحكم عجيبة ، وأسرار عظيمة ، وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها . بعجز العقول عن الإحاطة بآثار حكمة الله في خلق السماوات والأرض
المسألة الثانية : المقصود منه تعليم الله عباده كيفية الدعاء ، وذلك أن ، ثم يذكر بعده الدعاء كما في هذه الآية . من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم الثناء