قوله تعالى : ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) .
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عرفوا الله بالدليل وهو قوله : ( إن في خلق السماوات والأرض ) إلى قوله : ( لآيات لأولي الألباب ) ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله : ( الذين يذكرون الله قياما ) وعلى التفكر وهو قوله : ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على الله تعالى وهو قولهم : ( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ) ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء ، وهو من قولهم : ( فقنا عذاب النار ) إلى قوله : ( إنك لا تخلف الميعاد ) بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال : ( فاستجاب لهم ربهم ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الآية تنبيه على أن مشروطة بهذه الأمور ، فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا ، لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا . استجابة الدعاء
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : يقال استجابه واستجاب له ، قال الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول ) [ الأنفال : 24 ] .
[ ص: 122 ] المسألة الثالثة : أني لا أضيع : قرئ بالفتح ، والتقدير : بأني لا أضيع ، وبالكسر على إرادة القول ، وقرئ " لا أضيع " بالتشديد .
المسألة الرابعة : " من " في قوله : ( من ذكر ) قيل للتبيين كقوله : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [ الحج : 30 ] وقيل : إنها مؤكدة للنفي بمعنى : عمل عامل منكم ذكر أو أنثى .
المسألة الخامسة : اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل ، لأن العمل كلما وجد تلاشى وفني ، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل ، والإضاعة عبارة عن ترك الإثابة ، فقوله ( لا أضيع ) نفي للنفي فيكون إثباتا ، فيصير المعنى : أني أوصل ثواب جميع أعمالكم إليكم ، إذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على والدليل عليه أنه بإيمانه استحق ثوابا ، وبمعصيته استحق عقابا ، فلا بد من وصولهما إليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال ، فإما أن يقدم الثواب ثم ينقله إلى العقاب وهو باطل بالإجماع ، أو يقدم العقاب ثم ينقله إلى الثواب وهو المطلوب . أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا ،
المسألة السادسة : جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الأعمال إليهم .
فإن قيل : القوم أولا طلبوا غفران الذنوب ، وثانيا إعطاء الثواب فقوله : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم ) إجابة لهم في إعطاء الثواب ، فأين ؟ . الإجابة في طلب غفران الذنوب
قلنا : إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب ، لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب ، فصار قوله : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم ) إجابة لدعائهم في المطلوبين . وعندي في الآية وجه آخر : وهو أن المراد من قوله : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم ) أني لا أضيع دعاءكم ، وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء ، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه .
وأما قوله تعالى : ( من ذكر أو أنثى ) فالمعنى : أنه لا تفاوت في الإجابة وفي الثواب بين الذكر والأنثى إذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية ، وهذا يدل على أن ، لا بسائر صفات العاملين ، لأن كون بعضهم ذكرا أو أنثى ، أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب ، ومثله قوله تعالى : ( الفضل في باب الدين بالأعمال ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) [ النساء : 123 ] قالت : يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء ، فنزلت هذه الآية أم سلمة . وروي أن
أما قوله تعالى : ( بعضكم من بعض ) ففيه وجوه : أحسنها أن يقال أي بعضكم كبعض ، ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية . قال " من " بمعنى الكاف القفال : هذا من قولهم : فلان مني أي على خلقي وسيرتي ، قال تعالى : ( فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ) [ البقرة : 249 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " " وقال : " من غشنا فليس منا " فقوله ( ليس منا من حمل علينا السلاح بعضكم من بعض ) أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه ؟